صحيفة الحياة
يمتهن العقل السوري الوصف منهجاً، تتحكم بمواقفه مسبقات أيديولوجية، وهذا أكان ليبرالياً أم ماركسياً أم ديموقراطياً إلخ… فهو إما اندمج بإيديولوجية النظام، والشعب عنده يتطلب تنويراً فيما الثورة ستتجه نحو السلفية والأصولية لا محالة، وإما اندمج بالثورة فكانت أولى المهمات وآخرها إسقاط النظام.
الموقفان لم يمتلكا الواقع، رفضا الإصغاء لميوله ولصيرورته اللاحقة. صحيح أن التاريخ لا يسير بغائية مسبقة، لكن بعض المؤشرات كان يجب رصدها من قبل. لم يحدث ذلك ومنع النقد، فبقي من يؤيد الطبقة المسيطرة يبحث عن سبب لبقائها كالقول أن الشعب متخلف والنظام علماني وما يحدث مؤامرة خارجية. ومقابل ذلك رُفض كل نقد للهيئات السياسية وللشعارات التي رفعت والممارسات التي حدثت. العقل السوري كان إقصائياً بامتياز، والإقصائية سمة عامة له، حيث الآخر مثقفاً كان أو حزباً أو جماعة ليس محقاً بل خاطئٌ، عليه أن يعيد النظر بكل ممارساته.
لم ير هذا العقل الإيجابيات والسلبيات. لقد وصف النظام بأنه راحل ولا سبيل للتفاوض معه، ورحيله مسألة وقت. وها قد مرت أربعة أعوام وكوارث لا حصر لها. وهذه الرؤية معكوس الإيديولوجية السلطوية في العقل المعارض.
ساد هذا العقل طيلة سنوات الثورة ولا يزال، ولأنه صوري وإنشائي في فهم الواقع، غض الطرف عن كافة الظواهر من أبسطها وحتى أعقدها، من السرقات البسيطة باسم الثورة إلى خيانة الثورة ذاتها، وفي هذا برّر للجهادية، كجبهة النصرة، بأنها جزء من الثورة، وقبل بأي كان أن ينضوي في الثورة كيفما كان.
في الأشهر الأخيرة وصلت الأمور إلى حد عودة أفراد ومجموعات إلى “حضن” النظام. أي أنه لم تتشكل بنية تنظيمية دقيقة للثورة، وكان من السهل أن تصبح الجهادية سيدة الأمر في التشريع مثلاً وفي السلاح كذلك وفي المال وربما الإعلام، وأن تُظهّر الثورة كأنها إسلامية ضد نظام طائفي.
ما حدث يتطلب إعادة نظر بكل هذا المآل، وليس لجهة توهم واقع مفترض كما يشيع في كثير من الكتابات. فما حدث لا يعبر عن تاريخ قديم ظهر الآن كهويات متقاتلة، أو أن الثورة أطلقتها دول خارجية وأنها مؤامرة، وأنها تتطلب تنويراً حداثياً، وفي هذا استعادة لما قاله الشاعر أدونيس عن جهل الشعب وضرورة دعم النظام.
الحقيقة أن من اندفع مع الثورة اندفع تبعاً لموقفه الطبقي والسياسي، أما الشعب فاندفع بوعي ديني بسيط، شكّله له النظام من قبل، حينما منعه من أن يشكل مؤسساته كالنقابات والاتحادات، ومن ممارسة حريته، ولم تبق له إلا دور العبادة والبحث عن المصالح الشخصية، فعمم الفساد في كل شيء.
إذاً ليس من بنية فكرية متماسكة وليس من مشروع سياسي محدد للثورة وليس من برنامج لكافة مستويات المجتمع. وهذا له تفسيره في مجتمع محكوم أمنياً بامتياز. ومن هنا علينا قراءة الثورة مجدداً كما هي بوصفها ثورة شعبية بلا أهداف دقيقة، ولكنْ بأهدافٍ عامة ديدنها الحياة الأجمل وتحقيق الحريات العامة والعمل للفقراء.
إن غياب هذه الأولويات الأساسية في الثورة دفعها لتقبل كل تدخل خارجي سواء كان من دول عظمى أو إقليمية أو من الجهاديين، وهذا ما فتح المجال واسعاً كي يتدخل النظام نفسه عبر أجهزته والدول الحليفة له أيضاً، وهنا تكثر الإشارات إلى دور استخباراتي في صناعة الحركات الجهادية المقاتلة حالياً.
العقل السوري لم يمتلك الواقع، أي فشل في رصده، ويميل إلى اتخاذ مواقف أخلاقية وصفية منه أكثر من الانغماس فيه وتملك ميوله. هذا الفهم القاصر لا يدفعنا للقول إن الثورة لم تكن ضرورية. فالواقع كان يمكنه السير نحو تحقيق الثورة بأقصر الطرق، لكن ما دمر ذلك التطور جملة العوامل الموضوعية، وللمعارضة بتياراتها الدور المركزي في إطالة عمر الثورة. فقد كان انقسامها وهزال رؤيتها وتعدد أقطابها والذاتية والتبعية التي ميزتها، سبب ذلك.
الآن أصبح الواقع يتطلب دراسة معمقة لكل تجلياته، فالتدهور المستمر والمتراكم منذ أربع سنوات، والذي جاء على خلفية انهيار اقتصادي واجتماعي سابق، قد يدفع بسورية لتكون دولة فاشلة بامتياز. والتدقيق في المعطيات، وليس الانطلاق من المسبقات، أصبح مهمة الفكر بكل أشكاله في سورية.