المرحلة الجامعية مرحلة تكوين الذات والحصول على شهادة علمية مهمة، فما حال هذه المرحلة بالنسبة لطلاب جامعات إدلب والشمال المحرر، في ظل ما تشهده المنطقة من سوءٍ في الأوضاع عامة والأوضاع الاقتصادية خاصة؟
أثناء تواجدي في كلية العلوم شد انتباهي وجه فتاة يبدو عليها الحزن والقلق، اقتربت منها قليلا ونظرت إليها وابتسمتُ، فبادلتني الابتسامة، اقتربت منها وسألتها عن اسمها وعن مجال دراستها فأجابت اسمي ” براءة”، أدرس في كلية الصيدلة.
تحدثنا قليلا فسألتها عن سر ذلك الشحوب الواضح، تجاذبنا أطراف الحديث قليلا، فأظهرت لي ارتياحا بحديثي وقالت: إنني حائرة في أمري كيف سأجتاز هذه السنة العويصة، لدي مواد كثيرة، ساعات دوام طويلة، وأولادي صغار.
زوجي ومعاناة السفر اليومي، أما العبء الأكبر فهو تأمين القسط الجامعي لهذه السنة لأنني كنت قد انقطعت ثلاث سنوات عن الدراسة؛ لأنه وبرأي زوجي؛ قوت يومنا أولى من أقساط الجامعة لأننا سنحرم أطفالنا وأنفسنا لنؤمن القسط لجامعتي.
الكثير من الطلاب والطالبات أبعدتهم الأقساط عن مقاعد دراستهم لعدم قدرتهم على تأمينها، خصوصا مع ارتفاع تلك الأقساط. فالمعاهد الطبية أخذت الصدارة من حيث معدل ارتفاع أقساطها نظراً لزيادة إقبال الطلاب على التسجيل فيها والتخرج بسرعة مقارنة في الكليات الأخرى في جامعات إدلب والمحرر، ذات الأربع سنوات للالتحاق بسوق العمل .
كانت الأقساط تقريبا “مئة دولار” للقبول العام ومئتان للموازي للسنة الدراسية في العام الماضي، المعاهد الطبية تكلف مئة وخمسينن دولارا للقبول العام ومئتين وخمسين دولاراً للموازي، بينما كانت كليات الفرع العلمي تكلف مئتين للقبول العام وثلاث مئة للموازي، وكليات الأفرع الأدبية تكلف مئة وخمسين دولارا، أما التسجيل الموازي للصيدلة والهندسات كان ثلاث مئة وخمسين دولاراً.
زميلتي في قسم الفيزياء عبرت لي عن انزعاجها وغضبها وتنهدت قائلة:
” أشو يلي دخلني هالفرع المعت لو داخلة تخدير خلصت من سنة “، قاطعتها بسؤالي: لماذا تدرسين الفيزياء وقد كان حلمك التخدير؟ فقالت ” أشو جبرك عالمر غير الأمر منو، بعد أن تقدمت لفحص الثانوية العامة كان مجموعي مئتان وست عشرة وكان حد القبول مئتين وأربعة وعشرين درجة، وليس باستطاعتي التقدم إلى مفاضلة الموازي لارتفاع الأقساط، فمالي إلا أن تأقلمت مع واقعي ورضيت على مضض”.
كنت في جولةٍ ضمن عملي على مخيم “أطمة” الحدودي، فشد انتباهي وجود كتاب تشريح في تلك الخيمة الصغيرة، راودني الفضول عن سبب وجوده فسألت الخالة أم محمد: أيوجد لديكم من يدرس الطب؟ أجابتني والفخر يسبق كلامها، نعم إنه، محمد ابني يرضى عليه.!
تتابع الخالة أم محمد حديثها قائلة: ” مرت علينا أيام عجاف فقد عانينا من تهجير وتشريد من بلدتنا “اللطامنة” إلى عدة مناطق على فترات متقاربة عندما كان محمد في المرحلة الثانوية، إلى أن وصلنا إلى هنا، لكن محمد لم ينقطع عن دراسته وتابع بكل جد واجتهاد وكله آمال بتحقيق أحلامه للتسجيل في كلية الطب البشري ،حصل محمد على الشهادة الثانوية ودرس المعهد الطبي، لكنه لم يستسلم، وتابع ليحقق حلمه فقد وفقه الله للدخول إلى كلية الطب البشري، وهو الآن في السنة الخامسة ولم يقف بطريقه أي عائق من فقر أو تهجير بل كان يدرس في الجامعة صباحاً ويعمل بعدها في البناء ليؤمن دخله ومصروفه الجامعي والأقساط الكثيرة” ، تابعت الخالة بلهجة تملؤها الطمأنينة : ” الحمد لله إن محمد يعمل الآن في مركز طبي ولديه راتب جيد مع قدرته على الموازنة بين عمله ودراسته” .
لم يعد طلب العلم سهلاً كما كان بل أصبح أمراً تنحت الصخور من أجله وتصعد الجبال لبلوغه والحصول على شهادة جامعية مكلف، ولكن رغم كل الصعوبات الطلاب مستمرون وكلهم أمل بغد أفضل وأسهل.
(قصة خبرية) سهير إسماعيل