كانت تركيا خلال القرن الماضي قريبة من الغرب عموماً ومن أمريكا خصوصاً، فتركيا لا تُكِنّ كثيرًا من الودّ للمملكة المتحدة وفرنسا، حيث تعتبرهم- وخصوصًا بريطانيا- سبباً رئيساً في القضاء على السلطنة العثمانية التي كانت تسيطر على أوروبا الشرقية والوطن العربي كاملين، مما جعلها أكبر إمبراطورية في العالم، وفي مرحلة من المراحل كانت الأقوى.
كما أن تركيا لم تنسَ أن هاتين الدولتين هما اللتان فرضتا عليها بنود اتفاقية (لوزان) التي حرمتها الكثير من الفوائد الاقتصادية كالتنقيب عن النفط والغاز وبقية الثروات الطبيعية، وجني مردود العبور في مضيق البوسفور، حيث اعتُبر مجانياً منذ ذلك التاريخ إلى اليوم لضمان بقاء تركيا دولة تابعة، كما فُرضت عليها التبعية الثقافية كفرض العلمانية أسلوباً للحياة السياسية وإقصاء الدين الإسلامي، رغم أن الشعب التركي شعب مسلم عموماً، ولا يرضيه فصله عن جذوره التاريخية والدينية والثقافية.
كما كان من نتائج الدور الأوروبي عزلُ تركيا عن محيطها الجغرافي، حيث أدارت ظهرها لدول الجوار العربي المتماثل دينياً والمتشابك عرقياً، والذي يعتبر العمق الطبيعي لتركيا.
بالمحصلة توجهت أنقرة نحو الولايات المتحدة بعد ظهورها كدولة منتصرة عقب الحرب العالمية الثانية، وعلى هذا الأساس بنتْ تركيا علاقاتها الاقتصادية وبعثاتها التعليمية، وقامت بتسليح جيشها وتدريب ضباطها بالتعاون مع أمريكا.
وبالتوازي، بقيت العلاقات بين تركيا وبريطانيا وفرنسا فاترة، وكان من السلبيات الناتجة عن ذلك عدم تركيز تركيا على تعليم اللغات الأجنبية وخصوصاً الإنكليزية والفرنسية لديها.
“الشجرة العجيبة” تتغير
مع بزوغ فجر ثورات الربيع العربي وبالتزامن مع وجود إدارة أوباما في البيت الأبيض والتي اعتمدت أساليب مختلفة عما عهدناه عن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، راحت الأمور تأخذ منحى مختلفاً في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، وحصلت توترات نتيجة النظرة المتباينة للأحداث بينهما.
كما كان للحدث السوري تأثيره الذي جعل القيادة التركية مرتبكة ولمدة ليست قصيرة، حيث تبنت فكرة إصلاحية وحضت بشار الأسد على إصلاح القوانين الناظمة للحياة السياسية السورية واستيعاب المتظاهرين، إلا أن عناده واستمراره بموقفه في المواجهة المسلحة والحل الأمني، دفع القيادة التركية لتعديل موقفها لتقف في صف الشعب السوري المظلوم.
وكان هذا موقفاً جباراً يحسب للقيادة والشعب التركي ودليلاً واضحاً على أن هذه القيادة الحالية مختلفة تمام الاختلاف عمن سبقها من قيادات طيلة مئة عام تقريباً، وكان هذا الموقف الثاني الذي يُحسب لها بعد وقوفها مع الشعب العربي في فلسطين في محنته.
هذه المواقف وغيرها من التصريحات ساهمت في رسم الشخصية التركية الجديدة التي رغبت تركيا الجديدة بتسويقها بعد عزوفها عن الشخصية المهجنة التي تقمصتها طيلة القرن الماضي، حيث كانت كشجرة عجيبة ساقها يدلك على نوع، وأوراقها تدلك على نوع آخر، لكنها رغم ذلك أثمرت ثمراً مختلفاً تمام الاختلاف عن الساق وعن الأورق؛ ثمراً أصيلاً أصالة الأرض النابت فيها، لهذا عاد بمواقفه الى الأصول، وبناءً عليه فتحت تركيا حدودها للاجئين وساهمت بمساعدتهم بشكل فعال، وكانت مواقفها الدولية لمصلحة الثورة السورية.
الخطوط الحمر
من هنا كان تقييم تركيا غربياً وأمريكياً على أنها “دولة شرقية إسلامية”، وإن لم تكن مستبعدة من مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كونداليزا رايس في 2003، فهي كانت مُحيدة.
وعندما هددت تركيا بعدم السماح بـ “حماة ثانية”، ووضعت الخطوط الحمر، وجدت نفسها وحيدة أمام الضغوط التي مورست عليها، على عكس ما كان متوقعاً، حيث أنها عضو في حلف الناتو ومن المفترض أن يقف أعضاء الحلف إلى جانبها في الأخطار المحدقة بها.
وحين اقترحت إنشاء مناطق آمنة في الشمال السوري لتحمي نفسها من حزب PKK واستغلاله لحالة الفوضى المنتشرة في المنطقة، تم رفض طلبها، وأيضاً تركت وحيدة، وكانت النتيجة تفرّد موقفها إلا من بعض تفاهمات بسيطة مع السعودية وقطر لا ترقى إلى مستوى الحلف الذي تفرضه الظروف الناشئةK ناهيك عن مهاجمة بعض الدول العربية لها، ووقوفهم في صف العداء لتركيا.
الأمل بتعديل كفة التوازنات
مضت فترة رئاسة أوباما وهو يحجّم الدور التركي متعاطفاً ومساعداً في الوقت ذاته على نمو الدور الإيراني وتشعبه في المنطقة على حساب تركيا ووزنها الإقليمي، ليخلّ الأميركيون بذلك بالتوازنات الإقليمية القائمة في المنطقة.
إلا أن صعود نجم دونالد ترامب أثناء الانتخابات الأمريكية وفوزه فيها أحيا بعض الأمل لدى القيادة التركية بتحسين العلاقات وتعديل كفة التوازنات.
وكانت المسألة السورية خلال السنوات الست الماضية هي العامل الأبرز في تحديد شكل العلاقات بين تركيا وباقي الدول، وبما أن تصريحات ترامب بدأت بنقد طريقة اوباما في إدارة الولايات المتحدة للقضايا الدولية، فقد شجع ذلك تركيا على بناء علاقات وتفاهمات أكثر أهمية مع واشنطن، وكلما ازدادت التصريحات ارتفع منسوب التفاؤل، وانعكس عدم رضى ترامب وإدارته عن إيران ونظام الأسد “غضباً” إعلامياً، حيث وصف ترامب إيران بأنها راعية الإرهاب كما وصف بشار الأسد بـ “الحيوان” في أشهر تصريحاته الرنانة، وهذا ما جعل تركيا في حالة تفاؤل نوعاً ما حيال مجريات السياسة الأمريكية الخارجية مستقبلاً وخصوصاً في الملف السوري.
تناقض
غير أن ترامب بدأ بالتراجع عن بعض وعوده الانتخابية وعن بعض القرارات التي اتخذها مع بداية تسلمه السلطة، فقد وقفت الأجهزة القضائية ضد قرار منع دخول المهاجرين من سبع دول إلى الولايات المتحدة الذي أقره ترامب ثم تراجع عنه، كما أنه عجز عن إقناع المكسيك ببناء جدار عازل على حدودهما المشتركة على نفقة المكسيك، فتراجع عن الموضوع أو أهمله، كما أنه لم يستطع إيجاد وسيلة تفاهم أو استيعاب لكوريا الشمالية التي تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي بحسب تصريحات المسؤولين الأمريكيين.
كما أن سياسته في المنطقة العربية لم تتوضح حتى بعد مرور أربعة أشهر على تسلمه للسلطة، فقد تهجم على إيران مراراً لكن سلاحه الجوي كان يغطي قواتها في العراق، كما أنه تهجم على النظام في سوريا إلا أن طيرانه يغطي أعمال قوات حلفائه الأكراد (قسد) في شمال شرقي سوريا.
بيد أن الخطوة المفاجئة التي اتخذها ترامب مستبقاً بأيام زيارة مرتقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأمريكا، كانت تسليح “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكياً والمناوئة لتركيا والتي تمثل الوجه الآخر لحزب PKK حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابيةK وهذا الأمر دلّ على انتهاج ترامب سياسة معادية لأصدقاء أمريكا التقليديين والعودة لبعض سياسات أوباما الذي أمضى ترامب فترة في انتقادها.
وتعد تلك الخطوة التي اتخذتها واشنطن حيال “قسد” تهديداً للأمن القومي التركي، فهي تقوي الأكراد عموماً في الداخل التركي والسوري، وهي (امتلاك القوة) تعتبر من أهم نقاط تأسيس دويلة كردية على الحدود التركية تكون مهيئة للتواصل مع إيران وكردستان العراق.
وكانت “قسد” قد طالبت الإدارة الأمريكية بفتح ممر لها بعرض 50 كم غرباً للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وإذا افترضنا أن ذلك حدث فذلك يعني قيام دولة عرقية مدعومة أمريكياً، لها منفذ على البحر، هذه الحالة يكون باستطاعتها التغلغل في الدول المجاورة بوسائل متعددة، أضف إلى أنها دولة تقام في هذه الحالة على أرض ليست للأكراد من الناحية التاريخية، وقد جرى تهجير سكان كانوا مقيمين على تلك الأرض منذ زمن، فهي بالنتيجة دولة فتنة وأشبه ما تكون بدولة “إسرائيل” من حيث الأهداف المرجوة من قيامها، وقد تكون أخطارها أكبر من ذلك.
ما هي خيارات تركيا في هذه الحالة؟
لقد فعلت تركيا مؤخراً المنتَظَرَ منها منذ أربع سنوات على الأقل، فهي الآن بصدد تشكيل فيلق سوري يقوده الضباط السوريون المنشقون وبتدريب وتسليح تركي، هذا التشكيل سوف يرفع عن كاهل تركيا حملاً كان لا بد لتشكيل سوري أن يحمله لا سيما أن أهداف الثورة وأهداف تركيا تتقاطع في نقاط كثيرة وقليلاً ما تفترق.
ولا بد لأنقرة من استخدام أدوات ضغط على الإدارة الأمريكية، وهي تملك كثيرًا منها لا سيما أن تركيا هي الممر المفترض لخط الغاز المزمع إنشاؤه من قطر مروراً بتركيا الى أوربا، وهو أحد أهم أهداف واشنطن من تدخلها في المنطقة، كما لا يغيب عن البال بعض أوراق الضغط السياسي وإن كانت ليست قوية كما ينبغي، فعلاقة تركيا بالسعودية وقطر قوية، وهما بدورهما لهما علاقات سياسية متينة بترامب، ومن الممكن توظيف هذه العلاقات للحيلولة دون تسليح القوات الكردية بما يضر أمن تركيا القومي.
ومن الملاحظ ان أوراق الضغط التركية ليست قوية بالحد الكافي لثني الإدارة الامريكية عن هدف وصلت به إلى مرحلة التنفيذ، ولكن ليس للسياسة ثوابت فهي دوماً قابلة للمتغيرات.
صدى الشام