إسطنبول- إحسان الفقيه: بعد ثمانية عشر عاما من الحرب، وتسع جولات من المفاوضات المباشرة على مدى عشرة أشهر، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية نهاية سبتمبر/ أيلول الجاري، وقّعت الولايات المتحدة وحركة “طالبان” اتفاق سلام “مبدئيا” ينهي حالة الحرب متعددة الأطراف في أفغانستان.
لا تزال مسودة الاتفاق المفترض بين المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، وممثلي حركة طالبان، بحاجة إلى مصادقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
المسودة تتضمن الاتفاق التي تحدثت مصادر أمريكية عن موافقة ممثلي طالبان في مفاوضات السلام التي تستضيفها قطر منذ عشرة أشهر، على قطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة، وعدم السماح للتنظيمات “المتطرفة” باستخدام الأراضي الأفغانية منطلقا لمهاجمة الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، ومصالحها في العالم.
تعتمد مباحثات الطرفين على مقايضة سحب القوات الأمريكية والأجنبية الأخرى مقابل ضمانات تُقدمها طالبان بعدم السماح للتنظيمات “المتطرفة” باتخاذ الأراضي الأفغانية ملاذا آمنا لها، أو منطلقا لهجمات على الولايات المتحدة والدول الحليفة، ما يعني التزام الحركة بمواصلة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، الذي ينشط في عدد من الولايات شرقي البلاد.
ويهدف الاتفاق المبدئي، فور مصادقة الرئيس الأمريكي عليه، إلى الحد من العنف في عدد من الولايات الأفغانية مع بداية الانسحاب الأمريكي الجزئي، لكن إشارة إلى وقف إطلاق نار شامل يشمل جميع الولايات الأفغانية لا تزال غير مؤكدة.
وتلقت واشنطن خلال جولة المفاوضات التاسعة تأكيدات من طالبان بضمان أمنها القومي ومصالحها، من دون الاتفاق على وقف إطلاق نار شامل في جميع الأراضي الأفغانية، على أن يكون ذلك لاحقا بعد تطبيقه في محافظتين اثنتين.
ومن بين بنود مسودة الاتفاق موافقة واشنطن على سحب خمسة آلاف و400 جندي، وإغلاق خمس قواعد عسكرية خلال 135 يوما.
سيكون هذا الانسحاب الجزئي بداية لما يُتوقع أن يكون استجابة لرغبة الرئيس الأمريكي في انسحاب تدريجي لجميع قوات بلاده البالغ عددها 14 ألف جندي، والتي يمكن أن تُنهي أطول حرب أمريكية مستمرة.
الانسحاب الجزئي من أفغانستان سيكون بداية لما يُتوقع أن يكون استجابة لرغبة الرئيس الأمريكي في انسحاب تدريجي لجميع قوات بلاده
خبراء غربيون تحدثوا عن تنفيذ المرحلة الأولى من الانسحاب الأمريكي خلال الفترة التي أعلن عنها خليل زاد، وهي 135 يوما، يمكن أن تتبعها مرحلة لاحقة لسحب جميع الجنود في غضون 16 إلى 18 شهرا.
وستحتفظ الولايات المتحدة بوجود دائم لـ8 آلاف و600 جندي بعد توقيع الاتفاق المبدئي مع طالبان إلى حين إقرار السلام الشامل باتفاق جميع الأطراف الأفغانية على تسوية مقرر أن تبدأ المباحثات الخاصة بها في النرويج.
ويوجد أيضًا 6 آلاف جندي من دول أخرى يقاتلون في أفغانستان منذ بداية الحرب الكونية على الإرهاب، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الابن)، بعد أقل من شهر على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011، التي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها.
ويرغب ترامب بالبدء في سحب قوات بلاده من أفغانستان قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، كما أعلن وزير خارجيته مايك بومبيو، في 27 أغسطس/ آب الماضي.
لكن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، جوزيف دانفورد، يرى أنه من السابق لأوانه الحديث عن انسحاب أمريكي من أفغانستان، فيما ترغب طالبان بمغادرة جميع القوات الأجنبية وليس الولايات المتحدة وحدها.
ومن المتوقع أن يشكل انسحاب جميع القوات الأجنبية، مع عدم وجود قوات أفغانية مدربة قادرة على حماية المدن، فرصة لطالبان لاستعادة سيطرتها على كامل البلاد، وإعادة السلطة لإمارتها، المسماة “إمارة أفغانستان الإسلامية” التي انتهت بعد الغزو عام 2001.
كما أن ذلك سيعطي تنظيم الدولة “داعش” إمكانية أكبر للسيطرة على أجزاء واسعة من أفغانستان مع واقع تنامي قدراته القتالية وزيادة التجنيد في صفوفه.
وهناك ما بين 4 آلاف إلى 6 آلاف مقاتل في صفوف تنظيم الدولة “داعش”، ربعهم من غير الأفغانيين، وفق أحد مراكز الدراسات المحلية، فيما قلّل مسؤولون أفغان من أعدادهم إلى نحو 3 آلاف فقط، بينهم نسبة من الأجانب يتمركزون في ولايات ننكرهار وكونار ونوريستان (شرق).
كما أن انسحاب القوات الأجنبية يمكن أن يؤدي إلى موجة عنف جديدة شبيهة بما حدث في أوائل تسعينيات القرن الماضي، إذ إن أغلب القبائل والأحزاب السياسية تمتلك مجموعات مسلحة تابعة لها يمكن أن تتنافس على السلطة.
ولا يشمل الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان في المرحلة الراهنة الحكومة الأفغانية المدعومة من واشنطن.
وأشارت تقارير إلى احتمال إجراء مفاوضات مباشرة بين طالبان والحكومة الأفغانية تستضيفها النرويج في الأسابيع التي تلي مصادقة ترامب على مسودة الاتفاق “المبدئي” مع الحركة.
وحتى الآن ترفض طالبان التفاوض مع الحكومة التي تنظر إليها على أنها “تابعة للولايات المتحدة وتنفذ سياساتها، وحكومة غير مستقلة ولا تمثل الشعب الأفغاني”، لكن الحركة لا تمانع في لقاء مسؤولين حكوميين بصفتهم الشخصية.
سبق إعلان المبعوث الأمريكي خليل زاد، عن التوصل إلى اتفاق مع طالبان، أعمال عنف واسعة خلال الأسبوع الماضي في العاصمة كابل ومدن أخرى، من المحتمل أن تكون على صلة بتحسين طالبان لشروطها بالمفاوضات، وفق خبراء، أو بالانتخابات الرئاسية المقبلة وفق آخرين.
ودعا بيان طالبان، في 30 يوليو/ تموز الماضي، الشعب الأفغاني إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية المقررة في 28 سبتمبر الجاري، مع التشديد على أن الحركة سوف تفعل ما بوسعها لمنع إجراء الانتخابات.
ولقي نحو 32 ألف مدني مصرعهم في أفغانستان خلال السنوات العشر الماضية، حسب تقرير الأمم المتحدة، بينما يعد 2018، العام الأكثر دموية في النزاعات حول العالم، حيث قُتل أو جُرح 1500 شخص في يوليو الماضي وحده.
ووثق التقرير زيادة بنسبة 27 بالمئة في عدد القتلى المدنيين جراء الحرب في الربع الثاني من هذا العام، مقارنة بالأشهر الثلاثة الأولى من نفس العام.
وحذرت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في أفغانستان من استمرار أعمال العنف التي أدت إلى إغلاق حوالي 2000 مركز اقتراع في البلاد، ما يهدد بعدم إجراء انتخابات الرئاسة المقبلة، التي تأجلت لمرتين سابقا.
لقد كلفت الحرب عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الأفغان، وأكثر من 3 آلاف و500 جندي من القوات الأمريكية وقوات الدول الأخرى منذ غزو أفغانستان عام 2001، كما أنفقت الولايات المتحدة وحدها أكثر من 900 مليار دولار في الحرب وبناء القوات الأمنية الأفغانية وغيرها، منها 132 مليار دولار من المساعدات الأمريكية لإعادة الإعمار.
وتسيطر حركة طالبان على نحو نصف مساحة أفغانستان، ولها نفوذ واسع في المناطق التي لا تسيطر عليها.
وخلافا لرغبة طالبان بانسحاب جميع الجنود الأجانب، تسعى الحكومة الأفغانية لاستمرار دعم الولايات المتحدة لقواتها الأمنية مع بقاء أعداد من الجنود الأمريكيين لمحاربة التنظيمات المتطرفة، مثل تنظيم “داعش”.
كما ترغب الحكومة بزيادة عدد القوات الأمريكية إذا لم تستجب حركة طالبان لالتزاماتها بالاتفاق مع الولايات المتحدة.
وتسيطر طالبان على نحو 59 من أصل 407 وحدات إدارية تتشكل منها أفغانستان، بينما تتمتع بنفوذ في 119 وحدة إدارية أخرى، وفق تقرير مكتب الولايات المتحدة لإعادة إعمار أفغانستان.
وتمتاز مناطق سيطرة طالبان في الغالب بالكثافة السكانية القليلة، ويعيش تحت سيطرتها حوالي 10 بالمائة فقط من سكان البلاد البالغ عددهم حوالي 34 مليون نسمة.
لا بد أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي سيكونون بحاجة إلى وضع ترتيبات لإلزام طالبان بتنفيذ بنود الاتفاق مع واشنطن، ويميل مراقبون إلى أن قطر هي الدولة المرجح أن تلعب دور الضامن لالتزام طالبان.
ففي 2013، افتتحت طالبان مكتبا سياسيا لها في العاصمة القطرية الدوحة، بموافقة الولايات المتحدة.
(الأناضول)