لم تزل الهجرة إلى أوروبا أكثر إغراءً منها إلى الولايات المتحدة، بالنسبة إلى نخب سياسية وفكرية واقتصادية عديدة مأزومة في العالم. والسبب الأبرز، هنا، أن الثقة بالتقاليد الحضارية لـ “القارة العجوز” لا تزال الأرسخ في أذهان هذه الكثرة الكاثرة من النخب العالمية، خصوصاً لجهة توافر دولة القانون والمؤسسات الضامنة للحريات الفكرية والمعتقدية والاقتصادية، واحترام حقوق الإنسان، وترجمة مبادئ العدالة الاجتماعية، “بعدم الالتفاف عليها، كما تحرّض على ذلك، كبرى الشركات المتعدّدة الجنسية في الغرب”، بحسب تعبير الفيلسوف والمفكر الفرنسي من أصل يوناني، كورنيليوس كاستورياديس (1922 – 1997)، الذي يضيف أن “هذه الشركات لا يروقها أن تتوسّع العملية الديمقراطية الفعلية على مساحات قارات العالم جميعها، فتضغط، بالتالي، على السياسات الآمرة في الغرب، كي تبقى الديمقراطية مجرد شعار شكلي، لا يتعدّى تجليّات شكليته المبهرة، بغية الاحتفاظ بقوة السيطرة على أسواق العالم، بمنأى عن أي ثقافة سياسية فاعلة ومؤثرة في مواجهتها لمصالحها (أي الشركات) القائمة على فلسفة الربح، والربح الطردي فقط”.
وعلى الرغم من أن الميديا العالمية، غرباً وشرقاً، لا تزال في غالبيتها تصور أميركا بأنها أرض الفرص الأولى للهجرة، وترجمة الأحلام الاقتصادية للأفراد والجماعات، وصون الحريات على أنواعها، إلا أن أوروبا، في أذهان المفكرين والإنتلجنسيا الكونية، على اختلاف انتماءاتها ومعتقداتها، لا تزال الأرض والمجتمع والسياسات الأكثر ثقةً وصدقيةً ومبدئية في كل شيء.
وثمّة، للتوكيد على ما نذهب، هجرة عكسية من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، تقوم بها نسب ملحوظة للغاية من أحفاد المهاجرين الأميركيين القدامى إلى أوطانهم الأصلية، ولاسيما في الطليعة بينها إيطاليا واليونان وإيرلندا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا، ذلك “أن الأوروبي “بجينات” أجياله المختلفة، لا يزال يعتقد أنه سيد التنوير، وفلسفة التنوير وثورته الدائمة في هذا العالم، وأنه إذا ما نُكب التنوير بالالتفاف عليه من بعض الكارتيلات المالية الكبرى، فإن هذا لن يدوم طويلاً بالنسبة إليهم، والدليل أنهم يرتدّون عليه ويقصونه، على الأقل من ذواتهم، بالتماس مبادئ جديدة، سوف يحيونها في أرض الأجداد والآباء”. يقول هانز ديتريش مولر، وهو فيلسوف أميركي من أصل ألماني، إنه “يفضّل أن يظل غير منظور في الولايات المتحدة، كي لا يُفسد مشروعه بالدعوة إلى الهجرة العكسية من “العالم الجديد” إلى أوروبا”…”إذ أننا لم نعد نتحمّل هذه السياسات الاقتصادية العولمية المقوّضة لأميركا نفسها، مثلما هي مقوّضة لتقدم البشرية بأسرها، بدعوة الحفاظ على المصالح”.
صحيح أنه، عندما يهاجر المواطن الأميركي إلى الاتحاد الأوروبي اليوم، فإنه لا يعتبر مهاجراً مثل غيره من مهاجري العالم الثالث، فهو، أولاً وأخيراً، إبن حلف الناتو الذي يحق له، وعلى الفور، ما يحق لأي مواطن أوروبي في أي بلد يختاره داخل الاتحاد نفسه، خصوصاً على مستوى الإقامة والعمل وسرعة إنجاز حق التجنّس (إذا طلبه أصلاً) والاندماج في البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية… إلخ. إذاً، هو لا يواجه مشكلةً، على مستوى آليات سياسة دمجه في مجتمعه الجديد، لا بل هو مرغوب فيه بشدة في هذا المجتمع الغربي، وتحتاجه الدول المركزية في الاتحاد الأوروبي، كألمانيا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا، حاجتها لمواطنها الذي أنفقت عليه مئات الألوف من اليورو. يقول جون كريستوف ديمون، الخبير المختصّ بقضايا الهجرة لدى المنظمة الدولية للتعاون والتنمية: “لا محيد لأوروبا عن استقدام مهاجرين من الخارج، خصوصاً لملء الفراغ في البنية الديمغرافية الأوروبية التي أطبقت عليها الشيخوخة، من دون التعويض المقابل في معدلات المواليد الجديدة. وما لم نستقدم موارد بشرية منذ اليوم، على الرغم من رفض الشارع الأوروبي للأجانب من دول العالم الثالث، خصوصاً المسلمين منهم، فإن اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي ستدفع الثمن، وأكثر بكثير من الأثمان التي تدفعها اليوم”. ويقرّ ديمون “بأننا نشهد طلبات لجوء من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، وإنْ بأعداد رمزية جداً، إلا أن للأمر دلالته المهمة هنا”.
من جانب آخر، تحذّر أرقام المعهد الأوروبي للإحصاء من “أن ساكنة ألمانيا ستتراجع جرّاء انخفاض معدلات الخصوبة من 82 مليون نسمة اليوم، إلى 74.7 مليون نسمة في أفق العام 2050. كما أنها قد تأفل لتنزل إلى 65 مليوناً عند حلول العام 2060”.
هكذا غالباً ما تصوّر الخطابات الرسمية الأوروبية عنصر الأجانب بأنه ضرورة لمواجهة النقص الديمغرافي المعلن في أوروبا واحتياجات اليد العاملة في منطقةٍ من المرتقب أن تخسر ما لا يقل عن 20 مليون عامل بين العامين 2010 و 2030؛ وقد استنتجت المفوضية الأوروبية في الكتاب الأخضر الذي كانت قد أصدرته حول الموضوع في العام 2005 “أنه ينبغي عند الارتفاع، مراجعة سياسة القبول لدعم النمو”.
تدابير الدمج متواضعة جداً
لكن، وعلى الرغم من ذلك كله، لا تزال التدابير المتخذة لدمج الأجانب في دول الاتحاد الأوروبي متواضعة جداً. صحيح أنه تمّ تبنّي إرشاديْن مكرّسين لمكافحة التمييز في العام 2000، ما أدى إلى إنشاء أجهزة في بعض الدول كانت غائبة فيها إلى تاريخه، شأن الهيئة العليا لمكافحة التمييز في فرنسا التي تأسست في العام 2005؛ لكن معظم المراقبين، والمفوضية الأوروبية نفسها، يعتبرون الحصيلة مخيبة للآمال بوجه عام على صعيد الدمج. ومن شأن التنظيم الجماعي، استناداً إلى التجمّع العائلي (يجيز لمقيم أجنبي مستقر في الاتحاد الأوروبي أن يضمّ أقرباءه إليه) أن يتيح هامشاً أكبر من الحركة للدول الأعضاء، محولاً إياها تلبيةَ هدف الانسجام المعلن. وأن بطاقة الإقامة لفترة طويلة في الاتحاد الأوروبي التي طرحت، بعد قمة تامييري في فنلندا، لتقريب وضع رعايا الدولة الثالثة المقيمين منذ زمن طويل، من وضع المواطنين المحليين، لم تنجح في تلبية التوقعات المنشودة. وكانت المفوضية الأوروبية تسعى إلى إفساح المجال لحق فعلي بالحركية مع السماح بالنفاذ الحر للأجانب إلى سوق العمل في أي دولةٍ من دول الاتحاد يمكنهم يدّعوا بالانتماء إليها. ولكن الجهاز المعتمد في نهاية المطاف، بعد مراجعته من خلال الأفضلية الجماعية المعلنة منذ 1994، يُخضع هذا الحق لـ “غايات سوق العمل”، فلا يمكن لمهاجر يعيش ويعمل في دولةٍ تنتمي الى الاتحاد الأوروبي منذ أكثر من 25 عاماً أن يبحث عن منصب خارج أوروبا، إلاّ إذا كان مفوّضاً قانونياً. وبهذا استبعد أي احتمال للمساواة في معاملة العمال الأوروبيين والأجانب.
ولا غرابة في أن يكون الوضع على هذا النحو، وأن تخلو هجرة العمل من الكفاءة الجماعية في غيابٍ تام للاتفاق بين الدول الأعضاء، ولاسيما أن كل دولةٍ تدير الأمور على هواها، فإذا بالهجرة “المختارة”، والتنظيمات المكثفة (إسبانيا والبرتغال وإيطاليا خصوصاً) أو السرية (ألمانيا)، والتوظيف بناء على حصص نسبية أو عبر اتفاقيات عمالة (النمسا، إيطاليا)، تتعايش في جعجعةٍ قلما تؤيد انسجام القواعد. ومخافة أن يؤدي التبادل الحر للعمال، مع أنه المبدأ التأسيسي للمفوضية الأوروبية، إلى تكثيف الضغط الممارس على سوق العمل، قامت غالبية دول أوروبا الخمس عشرة (باستثناء إيرلندا والمملكة المتحدة وهولندا والسويد والدنمارك) بإرساء فترةٍ انتقاليةٍ بقي في أثنائها البولنديون والسلوفاكيون والرومانيون خاضعين لنظام حمائي، يرعى نفاذ الأجانب غير الأوروبيين إلى الوظائف. ولعل هذا الموقف المتخذ ممن ينبغي إطلاق اسم مواطني المنطقة الثانية عليهم يشهد على عجز الأوروبيين عن التوفيق بين رغباتهم المتناقضة.
الإساءة إلى حق اللجوء
في الباطن، يبدو أن الاعتبارات الأمنية تتغلب على سياسة الهجرة، فقد فرضت نفسها، منذ ظهورها في الخطاب الرسمي، إثر اعتداءات “11 سبتمبر” 2001. ومع القرار المتخذ في قمة سيفيل في إسبانيا بتحويل مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أولوية، شكّل عام 2002 تحولاً حاسماً في الأحداث. ومن المواضيع الثلاثة التي طرحت في تامبيري الفنلندية، أدى هذا الموضوع الدور الأساس في شحذ همم الحكومات. واعتمدت التدابير المقترحة على هدف مزدوج حماية الحدود والاستبعاد. ولتسهيل عمليات الترحيل، أبرمت اتفاقياتٌ لإعادة القبول مع دول الانطلاق أو الترانزيت، وازداد عدد مراكز الاحتجاز، حيث يُجمع الأجانب بانتظار ترحيلهم في ظروف مهينة بوجه عام (تضم الأراضي الأوروبية أكثر من 220 منها) وعملت الدول على توحيد إجراءات الاستبعاد والرحلات الجماعية المنظمة لترشيدها. ولحماية الحدود، باتت أنظمةٌ معلوماتيةٌ تسجل أسماء كل من يجتازها أو يحاول عبورها، شأن ملفات نظام معلومات شينغن، أو النظام الأوروبي لمضاهاة بصمات الأصابع (يوروداك)، أو البطاقة الإحصائية المستقبلية التي ستحل مكان تأشيرات السفر، مسهّلةً تعرف كل من يمر بالحدود، وأصبح منح تأشيرات السفر يخضع لسياسة مشتركة؛ ونظم تعاون القوى الأمنية، فيما تبقى شركات الطيران معرّضة للعقوبات، إذا ما واكبت مسافرين بلا أوراق شرعية. ولا شك في أن الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود الخارجية (فرونتكس) التي أنشئت في 2004، والمكلفة بتنسيق المراقبة عند أبواب الاتحاد، تشكّل شعار الاستراتيجية السائدة، والمتمثلة بحماية الأراضي من المهاجرين الذين يعتبرون عناصر تهديد بشكل أساسي.
بيد أن هذا السعي الدؤوب إلى استتباب الأمن على الأراضي يهدّد حق اللجوء، فإذ تغلق دول الاتحاد أبوابها، تنغلق أيضاً على كل الذين يحتاجون إلى ملجأ فيها إلى حدّ النكث بالتزاماتها الدولية. ولم يظهر هذا التفاوت بين المبادئ المعلنة في مدينة تامبيري (ضمان الاحترام الكامل لموجبات اتفاقية جنيف حول اللاجئين، وتمكين الاتحاد من تلبية الاحتياجات الإنسانية) والواقع بهذا الوضوح في أي مجال آخر، فيما أسهمت الإرشادات التي ترعى استقبال مقدمي الطلبات، وتحدّد الإجراءات المنطبقة عليهم، وتعين الدولة المكلفة بتطبيقها في تحويل سياسة اللجوء إلى جهاز ردع أكثر منه حماية.
وبهذا برزت مفاهيم جديدة عدة، شأن مفهوم “الدولة الآمنة” التي يخضع رعاياها غير المحتاجين إلى مساعدةٍ دولية، لإجراءات سريعة تفضي إلى الرفض شبه المنهجي، إلا أن التجربة أثبتت أن الأقليات قد تتعرّض للملاحقة في دول “آمنة” (البوسنة، جورجيا). كما قد تنتهك حقوق المرأة فيها (الختان، الزواج الجبري) مع أخذ تغير المعادلة السياسية بين ليلةٍ وضحاها بالاعتبار، تماماً كما طرحه اندلاع الحرب الأهلية في ساحل العاج. ويُستخدم، أيضاً، مفهوم الطلب الذي لا أساس له من الصحة (على الرغم من غموض تحديده القانوني) الذي يفرض نوعاً من الشبهة المعممة. وقبل أعوام، اعتبر مفوض المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان، توماس هامربرغ، أن حق طلب اللجوء لا يحظى بحمايةٍ تامة في الاتحاد. وفي الواقع، تراجع عدد الطلبات مسجلاً انخفاضاً من أكثر من نصف المعهود في دول أوروبا الخمس عشرة (400 مليون نسمة). والتراجع هنا يُحسب بالملايين، نزولاً إلى مئات الألوف.
واليوم، تركّز دوائر الهجرة في الاتحاد الأوروبي على النوعية، لا الكمية في عداد طالبي الهجرة إليها، فهي باتت تركّز على النخب المثقفة، والنخب الخبيرة بشؤون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فضلاً عن المهن والتخصصات الأخرى، كالطب والصيدلة والطب والهندسة والمحاماة. ولأجل ذلك، عدّلت دولة، مثل فرنسا، عن تطبيق مرسوم يقضي بعدم السماح للخريجين الأجانب بالعمل على أراضيها، وتمديد تجاربهم المهنية في مؤسساتها، وذلك من خلال تراجع “الاشتراكيين” لدى وصولهم إلى الحكم عن المرسوم الصادر في عهد وزير الداخلية الأسبق، كلود كيون، في مارس/ آذار من العام 2011، وحتى اليوم.
أما بشأن تدفق الهجرة الكمية الأخيرة من سورية، وغيرها من دول الشرق الأوسط، بسبب الحروب المأسوية المستعرة، فقد استنفر الاتحاد الأوروبي كل مؤسساته المعنية بالهجرة والأمن للحدّ منها، واستطاع بحدودٍ كبيرةٍ كبحها حتى اللحظة، بالضغط على تركيا ومساعدتها بأكثر من ستة مليارات يورو، وليس دولارات كما هو شائع، لإبقاء النازحين السوريين والعراقيين حيث هم.
العربي الجديد