هناك من يقول أن المحاولة الانقلابية الفاشلة والتي تمكن الرئيس التركي من إبطالها عن طريق الاعتماد على الأرضية الشعبية المؤيدة في تموز 2016 هي التي كانت النقطة البارزة في تحول السياسة التركية الداخلية والخارجية باتجاه الخط الجديد الذي شهدناه مؤخراً, فتركيا اليوم تمسك عصا السياسة من المنتصف بحيث تبقى على مسافة واحدة من كل الأطراف المؤثرة في مجريات الأحداث في المنطقة.
فالعلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تتمتع بنوع جيد من الثقة رغم مرورها ببعض التعرجات السلبية بعض فتورها لعدة اسباب يأتي في مقدمتها الملف الخاص بعلاقة “واشنطن” مع قوات سورية الديمقراطية التي تتهمها أنقرة بميولها الانفصالي في مناطق الشمال السوري, إلا أن تركيا تداركت الموقف واستفادت من توظيف بعض الملفات الأخرى بحيث حافظت على موقعها في حلف شمالي الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية “الناتو” كركيزة أساسية من أهم ركائزه, وفي ذات السياق وجدت تركيا لنفسها مجالاً محدوداً لانحراف بوصلة سياساتها نحو موسكو التي تدرك تركيا جيداً أن “موسكو” الأمس تختلف عن “موسكو” اليوم, فهي القطب الثاني في العالم والعائد إلى الساحة السياسية الدولية بقوة.
الاستفتاء القادم سيحدد مدى طموحات الرئيس التركي “أردوغان”.
لا شك أن عرّاب السياسة التركية الحالية هو الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” والذي تمكن من توظيف نتائج الانقلاب العسكري الفاشل لصالحه مع حزب “العدالة والتنمية”, فقد استغل ردة الفعل الامريكية على محاولة الانقلاب الفاشل, واتهامه “واشنطن” بحماية الداعية “فتح الله غولن” الذي تتهمه أنقرة بالتخطيط للانقلاب العسكري, استغل بردوة هذه العلاقات من أجل أن يجد مسوغاً لنفسه كي ينحرف نحو روسيا, فأعاد “المياه إلى مجاريها” بعد أن ساءت العلاقات كثيراً إثر قيام تركيا بإسقاط مقاتلة روسية من نوع “سوخوى24” على الحدود التركية-السورية في 24 تشرين الثاني عام 2015م.
ولكن وبعد أن اختلطت الأوراق في سورية التي تعتبر بمثابة الملف الساخن الذي يحدد سياسات تركيا مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا, خصوصاً مع تشابك بعض الملفات الساخنة “العسكرية” في الشمال السوري على شكل مشاريع دول صغيرة, علينا أن نسأل انفسنا أين يقف “أردوغان” اليوم؟
يبدو أن تغير الخارطة العسكرية على الأرض في الشمال السوري لا تدل على أن الرئيس التركي سيستمر ربما في الالتزام بتعداته مع كل من روسيا وإيران, فقوات سوريا الديمقراطية والتي تدعمها واشنطن بشكل علني تقوم بالتنسيق مع قوات النظام والتي تدعمها أو تديرها موسكو بشكل مباشر, سيما وأن قوات سورية الديمقراطية قامت في الآونة الأخيرة بتسليم عدة مواقع لها لقوات النظام بحيث تقطع الطريق أمام طموح قوات المعارضة السورية التي تدعمها أنقرة في عملية “درع الفرات” بالوصول شرقاً إلى منبج ثم مدينة الباب, فالمشكلة مازالت قائمة “الوحدات الكردية” لم تنسحب إلى شرق الفرات, والنظام السوري يعود تدريجياً إلى مناطق الشريط الحدودي مع تركيا برضا روسي-أمريكي, وعلى تركيا ان تختار ما بين التزاماتها مع روسيا التي يبدو وكأنها غير مستعدة لتنفيذها, أو بالمجازفة في الدخول بمآزق عسكرية جديدة لإحباط هذه المخططات.
يبدو أن قيام روسيا بتغطية عمليات قوات النظام شرق مدينة حلب وخصوصاً في منطقة الباب هي رسالة قوية لأردوغان كي يعلم أن خطوط حمراء جديدة تم رسمها في الأفق, وقد ترافق كل ذلك بعدم التزام روسيا كطرف ضامن لاتفاق وقف إطلاق النار والذي استخدمت أنقرة نفوذها في إجبار العديد من الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة السورية بتوقيعه في العاصمة الكازاخستانية “استانة”, لذلك يبدو وكأن الرئيس التركي أردوغان يستشعر مدى “خبث” السياسة الروسية ومكرها لذلك أعلن الرئيس التركي عن زيارة مرتقبة له إلى “موسكو” في الأيام القادمة لاستيعاب الموقف.
ومن الناحية الأخرى ينظر الرئيس التركي بعين متفائلة إلى نتائج الاستفتاء المرتقب والذي سيصوت عليه الشعب التركي في الايام القادمة لتوسيع صلاحيات الرئيس على حساب الحكومة, وإن تمكن أردوغان من تحقيق ما يصبو إليه في هذه الانتخابات فإنه قد يتمكن من إعادة رسم ملامح سياسية جديدة تستوعب المتغيرات المرحلية والتي تؤثر في مجرياتها العديد من الاطراف الفاعلة..
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي.