يتناول تقرير أخير صادر عن المركز السوري لسياسات الأبحاث، الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة السورية، مستخدما معيارا إشكاليا لتقييم حصيلة الأعوام بين 2010 و2014، يتعلق بمفهومي سيناريو الأزمة والسيناريو الاستمراري لو لم تحدث أزمة. وعلى الرغم من محاولته الإتيان على جل الجوانب التي أدت إلى هذه الوضعية الكارثية التي تعيشها سوريا اليوم، إلاّ أنّ التقرير أسقط من منهجه الجانب السياسي الذي يعدّ الفاعل الأهم في الأزمة والسبب الرئيسي الكامن وراء اندلاعها.
لا يمكن التّوقف عند مفاهيم كـ”الأزمة السورية”، و”النزاع المسلح” و”قوى التّسلط والعدوان”، من خلال ما عرضه تقرير المركز السوري لسياسات الأبحاث، خاصّة أنّها تخلق انطباعا أنّ ما يحدث في سوريا سببه كل الأطراف المتصارعة، وليس النظام الذي انتهج الخيار العسكري وبسببه تحوّلت الأوضاع في سوريا إلى أزمة كارثية بين سنتي 2010 و2014.
وكذلك لا يمكن تبرير هذه المصطلحات لكونها لا تتناول الأزمة السياسية؛ فالمنهجية التي جرى وفقها التقرير تفكك العلاقة بين السياسي من ناحية والاقتصادي والاجتماعي من ناحية أخرى، وهذا قصور كان من المفترض ألاّ يقع فيه تقرير يتعامل مع الآثار المبحوثة بنظرة شمولية؛ ففصل السياسي عن الاقتصادي والاجتماعي، يفضي إلى منهجية ونتائج بحثية تكون لصالح الطبقة المسيطرة حتما. وبالتالي يعدّ هذا التناول مجزوءا في منهجية التحليل التي اتبعها التقرير، بغضّ النظر عن أنّ القائمين عليه كانوا يتقصدون تقديم ورقة موضوعية تُقدّم للفاعلين السياسيين من كل الأطراف وغيرهم ليطلعوا بالأرقام على حجم المأساة السورية.
تداعيات كارثية
تعدّ الطبقة المسيطرة، وتحديدا السلطة الأمنية والعسكرية في سوريا، السبب الرئيسي لحالة التدهور العام التي تعيشها البلاد، وهي المتسبّب الرئيسي في الركود الاقتصادي والاجتماعي القائم، وتضاف إليها بدرجة ثانية الدول التي دعمت العسكرة والطائفية وفكرة الصراع العسكري في سوريا، خاصّة من قبل حلفاء النظام، داعمو المعارضة فقد كان قصدهم إتمام الثورة الشّعبية الّتي بدأت عام 2011 بغاية الانتقال بالبلاد نحو الأفضل، والتي شكلت الطبقات المفقرة والمهمشة الركيزة الأساسية فيها، وشاركتها في ذلك فئات من الطبقتين المتوسطة والثرية بأعداد محدودة.
وتتجاوز مجمل الخسائر في الاقتصاد (مشمولا فيها الخدمات الاجتماعية كالمدارس والمستشفيات وسواها)، بين عامي 2010 و2014، الـ 202 مليار دولار، كما أنّ معدل الدين العام ارتفع إلى 147 في المئة. وتشمل الخسائر كافة القطاعات الاقتصادية بدءا بالتجارة الداخلية والاتصالات والصناعة الاستخراجية والخدمات الحكومية والصناعات التحويلية وكذلك الزراعة التي تأثّرت بثلاثة عوامل تتلخص في؛ الجفاف وتواصل النزاع المسلح ورفع أسعار الوقود ومستلزمات الزراعة في إطار رفع الدعم عن كافة السلع الأساسية للمواطنين. كما بقي قطاع السياحة بلا أيّ مردودية تذكر.
ويسبّب تدهور الزراعة، على وجه الخصوص، عاملا خطيرا في إطار انعدام الأمن الغذائي، ويساهم في ظلّ الانهيار الكامل للاقتصاد السوري، في انكشاف التبعية للدول الخارجية عبر الاستيراد والاقتراض المالي والتسهيلات المالية ولا سيما من إيران وروسيا، وهذا ما أدى إلى دمار القدرة التنافسية للاقتصاد السوري وقوّض أسس الثروة والإنتاجية التي كانت قد تراكمت عبر عقود.
ويؤدي الانكشاف الاقتصادي إلى الزيادة الهائلة لعجز ميزان المدفوعات، الذي يستهلك الاحتياطات الأجنبية وكافة المدخرات، ويراكم ديون ضخمة سيقع على كاهل الأجيال المستقبلية إيفاؤها.
كما تشمل خسارات مخزون رأس المال حتى نهاية عام 2014، ثلاثة مكونات أساسية في الاقتصاد السوري؛ أوّلها التراجع في الاستثمارات الصافية بمقدار 27.8 مليار دولار، وثانيها المخزون المعطل لرأس المال الذي يبلغ 28.2 مليار دولار، وثالثها مخزون رأس المال المدمر جزئيا أو كليا والمقدّر بـ 71.9 مليار دولار.
وقد رفع النظام سعر الوقود المستعمل في المنشآت الصناعية من 60 إلى 150 ليرة سورية للتر الواحد، وللمستهلكين من 60 إلى 80 ليرة، وتسبّب ذلك في انهيار متصاعد للزارعة والصناعة معا، بالإضافة إلى عدم قدرة المواطنين على شراء تلك المواد خاصة الأدوية، ممّا أدى إلى تفشي أمراض عديدة، ولا سيما بين شريحة الأطفال. وقد تسبب ذلك بدوره في تراجع معدل أمل الحياة عند الولادة للمواطنين السوريين بين عامي 2010 و2014. كما بلغت نسبة الفقر الإجمالي للمواطنين إلى حدود 82.5 بالمئة، وهو ما يؤدي إلى أشكال متنوعة من الحرمان لا تتعلق بالجانب المادي وحده.
أمّا الزيادة الوحيدة في النفقات العامة للدولة فقد كانت لصالح الجيش، وهي تمثّل خسارة اقتصادية بالكامل، حيث أنّ الخدمات العامة كالتّعليم والصحة والرفاه أضحت حكرا على حاملي السلاح والأمنيين دون غيرهم.السوريون اختاروا سبيل الثورة بعد سنوات من القمع والاحتقان
وقد أدّى الانكماش الكبير في الاقتصاد إلى توقف آلاف المعامل وتسبب في هجرة الفلاحين لأراضيهم، وكانت نتيجة ذلك ارتفاع معدل البطالة إلى حدود 57.7 بالمئة في نهاية عام 2014، وخسر بذلك سوق العمل 2.96 مليون فرصة عمل. وشكّل العنف الذي يمارسه النّظام بدوافع سياسية، سببا لتراجع عدد السكان من 20 مليون إلى 17 مليون نسمة، وأدّى ذلك إلى هجرة ذوي الاختصاصات وأصحاب المعامل. كما أنّ عدد الذين قتلوا في الصراع وصل إلى 210 ألف سوريّ، وهناك 840 ألف جريح، على مدى السنوات الأربع الأخيرة.
حالة اغتراب مستمرة
كان تأثير التراجع الكبير في الاقتصاد كارثيا على الطبقات المفقرة، خاصة في مجالي التعليم والصحة، حيث رفعت الدولة الدعم عن كثير من السلع، وتوقف القطاع الخاص بسبب الحرب، وقام بنقل مصانعه إلى خارج البلاد أو إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، ومنها ما تمّ نهبه. وقد أدّى كل ذلك إلى مغادرة الملايين إلى خارج البلاد؛ ووصل عدد المهجرين داخليا وخارجيا إلى 6.8 مليون سوري.
وكان لهذا الانتقال والتهجير واللجوء آثار خطيرة على أسواق العمل وعمليات الإنتاج وأنماط الاستهلاك والعلاقات الاجتماعية والبنى المؤسساتية الرسمية وغير الرسمية للاقتصاد، وكان التأثير الأخطر اجتماعيا بروز ظاهرة التغيّر الديموغرافي، المتمثل في إعادة توزيع السكان وتحركاتهم وفقا للاعتبارات الدينية والمذهبية؛ وهو ما يعني إمكانية ظهور مدن وبلدات سورية بلا تنوع ديني مستقبلا. وهو ما يغذي المخاوف من إمكانية أن يكون البلد ذاهب بالفعل نحو خيار التقسيم على أساس الطوائف وأنّ شكل النظام المستقبلي سيكون طائفيا.
وبالإضافة إلى جملة المشاكل المتعلقة بالصحة والتعليم وانخفاض معدل الدخل، تنامى مفهوم الاغتراب الغني في دلالاته، والذي يفيد التقرير بأنه يعكس الفجوة بين قدرات الأفراد وبين المؤسسات، التي يفترض أنها من إنتاجهم، وأنها المجالات التي يمارسون فيها حياتهم النوعية، أي العمل والإنتاج والتداول والتعليم ومختلف نشاطات الأفراد الخاصة بالعمل.
وإذ يعيش السوريون حالة اغتراب مستمرة منذ الفترات التي سبقت سنة 2010، فقد تفاقمت هذه الوضعية طيلة أعوام الثورة، فالسوريون حاولوا أن ينهوا تلك الحالة بكل أشكالها، من خلال ثورتهم، وخاصّة الاغتراب السياسي الذي تسببت فيه سياسات النظام الذي رفض الخيار الشعبي، ومضى في خيار الدمار والمجازر.
اغتراب سياسي نتج عن سنوات القمع وإغلاق الأبواب أمام جل الأصوات الرافضة لخيارات نظام بشار الأسد الذي آثر مصالح المقربين منه على مصالح السواد الأعظم من شعبه، ممّا أسفر عن حالة متنامية من الاحتقان والتململ في صفوف التشكيلات الشعبية التي اختارت سبيل الثورة، لقلب المعادلة وإنهاء إحساس الظلم الذي كان يجثو على قلوبهم، كونه السبيل الوحيد الذي من شأنه أن يصالحهم مع ذواتهم وينهي حالة الاغتراب التي يعيشونها، لكن تعنت النظام ومضيه في خيار الحرب على شعبه زاد من ذاك الإحساس وتلك المعاناة خاصة مع ظهور جماعات مسلحة متشددة استغلت بدورها حالة الفوضى القائمة.
وقد تسببت هذه الأوضاع الجديدة في زيادة منسوب الاغتراب الذي يعيشه السوريون خاصة بعد أن أضحوا محل تنازع بين النظام وبين المتشددين؛ كلّ يسعى إلى تجنيدهم بغير إرادتهم في آلة الحرب ومؤسسات واقتصاد العنف.
ويُعاني السّوريون على مدى السنوات الأربع الأخيرة الاضطهاد والتطرف والتعصب والإرهاب، وهي أدوات يستعملها النظام لإخضاع المجتمع المدني وبقية مكونات المجتمع لسلطته.
خلاصة القول، على الرغم من أنّ التقرير حاول الابتعاد عن تقديم مقارنة بين سيناريو الأزمة والسيناريو الاستمراري من منظور كان يسعى لكي يتّسم بالموضوعية عند متلقيه على اختلافاتهم، إلاّ أنّه أسقط الجانب السياسي الذي يعد حجر الزاوية في فهم المسببات الحقيقية التي أدت إلى الأوضاع التي تشهدها سوريا اليوم. فالأوضاع السياسية التي كانت تعيشها البلاد قبل الثورة هي التي انعكست اقتصاديا واجتماعيا وهي التي تسبّبت بالأساس في تأجيج مظاهر الاحتجاج، وأسفرت عمّا أسفرت من خراب شمل جلّ جوانب الحياة بعد مرور أربع سنوات على صراع ما زال تواصله ينبئ بتداعيات أشد وطأة، فالأزمة سبقت الثورة وليست وليدة لتداعياتها.
العربعمّار ديّوب