في رواية الشاعر والأديب الأميركي مايك غولد عام 1930 “يهود من دون نقود” يسافر راوي شاب مع والديه إلى ضواحي بروكلين آنذاك مع “زعيم صهيوني” للنظر في عرض شراء تقدم به تاجر عقارات في مناطق سكنية مقسمة عنصريًا.
ومن خلال مراقبة الأحياء المعزولة عن بعضها واستكشاف الصلات بين البيض والمؤيدين للصهيونية وتجار العقارات والمضاربين، يقارن الشاب بين معاداة الطبقة العاملة وبين عنصرية الصهيونية.
ومع سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضم ما يصل إلى 30% من أراضي الضفة الغربية لإسرائيل بالقوة، يستعيد مثقفون يساريون يهود وإسرائيليون النظر لإسرائيل كمشروع استعماري نشأ في سياق الحركة الإمبريالية ويعتمد على التطهير العرقي والسيطرة العنيفة على الشعب الفلسطيني.
ويعترض العديد من اليهود حول العالم على فكرة أن دولة إسرائيل تمثل إرادة ومصالح الشعب اليهودي، وفي الزمن الراهن يترك العديد من المثقفين والأكاديميين والنشطاء اليساريين إسرائيل، بشكل متزايد، ويختاروا حياة المنفى، بعد أن تعرضوا للمضايقات والإسكات، ولم يعد لديهم من خيار سوى المغادرة وإلى غير رجعة.
ولا تعد هذه المواقف جديدة؛ ففي ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كان هناك اتجاه يساري يهودي واسع يعارض الحركة الصهيونية باعتبارها أحد وجوه الاستعمار، وكان ينظر إليها كشكل من أشكال القومية اليمينية والإمبريالية التي تتناقض بشكل أساسي مع أفكار اليسار السائدة عن “أممية الطبقة العاملة”، لكن هذا الصوت تراجع لصالح يسار صهيوني مؤيد للسياسات الإسرائيلية بعد الحرب العالمية الثانية.
يهودية غير صهيونية
وفي تقريرها لمجلة “في هذه الأوقات” الأميركية، (In These Times) حاورت الصحفية سارة لازار الأكاديمي الأميركي بنجامين بالتاسير، الأستاذ المساعد في الأدب المتعدد الأعراق في جامعة إنديانا عن مقاله الذي تناول فيه الحركة اليهودية اليسارية المناهضة لكل من الصهيونية والإمبريالية والعنصرية في القرن العشرين، وتناول الحوار الأصول الاستعمارية للصهيونية الحديثة وسبب الموقف اليساري اليهودي السلبي تجاهها باعتبارها شكلا قوميا يمينيا.
وأكد بالتاسير في الحوار أن فكرته تنفي الادعاء بأن الصهيونية تعكس إرادة جميع الشعب اليهودي، وقال “بالنسبة لليهود في الولايات المتحدة الذين يحاولون التفكير في علاقتهم ليس فقط بفلسطين، ولكن أيضًا بمكانهم في العالم كأقلية عرقية ثقافية من الشتات جرى اضطهادها تاريخياً، علينا أن نفكر في جانبنا، ما القوى العالمية التي نريد أن نتوافق معها؟”
وأضاف “إذا كنا لا نريد أن نقف مع جلادي اليمين المتطرف، والاستعمار والعنصرية؛ فهناك موقف ثقافي يهودي يمكننا الاستناد إليه” ويقصد بذلك اليسار المناهض للإمبريالية والصهيونية.
واعتبر بالتاسير أن هناك تاريخا يهوديا طويلا يسبق الأيديولوجية الصهيونية، مضيفا “كانت هناك محاولات طوال التاريخ اليهودي، بشكل كارثي، للعودة إلى أرض فلسطين، وأشهرها في القرن 17، لكن في الغالب جرى فهم إسرائيل باعتبارها نوعا من الشوق الثقافي، ولم تكن هناك رغبة يهودية في الانتقال فعلياً إلى هناك”، ومع ذلك فهناك عدد قليل من اليهود استمروا في العيش في فلسطين في زمن الحكم العثماني وقدر عددهم بحوالي 5% من السكان.
“إسرائيل” بديلة
وأردف بالتاسير “الصهيونية المعاصرة، ولا سيما الصهيونية السياسية، تعتمد على هذا الخزان الكبير من الشوق الثقافي والنص الديني لإضفاء الشرعية على مشروعها، وهنا يأتي الارتباك”.
وتابع “نشأت الصهيونية الحديثة في أواخر القرن 19 كحركة قومية أوروبية؛ وأعتقد أن هذه هي الطريقة الصحيحة لفهمها. كانت واحدة من هذه الحركات القومية الأوروبية العديدة التي أنشأتها الأقليات المضطهدة التي حاولت بناء دول قومية متجانسة عرقياً من الثقافات المتنوعة لأوروبا الغربية والشرقية؛ وكانت هناك العديد من القوميات اليهودية في أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين، وكانت الصهيونية واحدة منها فقط”، على حد تعبيره.
واستعرض الأكاديمي الأميركي نماذج هذه الحركات اليهودية الأوروبية وأبرزها “الجبهة اليهودية العامة” (البوند) التي كانت حركة اشتراكية يسارية برزت في أوائل القرن العشرين واعتبرت أن أوروبا الشرقية هي موطنها الطبيعي وأرضها، ولغتها “اليديشية”، وانتشرت هذه الحركة في روسيا القيصرية وليتوانيا وبولندا، ودعمت بقاء اليهود في أوروبا ضد الحكومات القمعية ورفضت الهجرة إلى فلسطين.
ويقول بالتاسير إنه “لولا أن الهولوكوست النازي محا حركة البوند وغيرها من الحركات الاشتراكية الأخرى في أوروبا الشرقية لربما كانت القومية اليهودية في سياق مختلف تماماً الآن.
وإضافة لهذه الحركة، كانت هناك تجارب سوفياتية في مدينة بيروبيجان الروسية، وأيضًا في أوكرانيا، وسعت هذه الحركات لإنشاء مناطق حكم ذاتي يهودية في مناطق عاش فيها اليهود أو داخل الاتحاد السوفياتي، وكانت هذه الحركات متجذرة في الثقافة واللغة اليديشية.
وكانت الصهيونية واحدة من هذه الحركات الثقافية اليهودية؛ لكن ما جعل الأمر مختلفا هو أنها وضعت نفسها على مسار الاستعمار البريطاني، وهي علاقة انكشفت بوضوح مع وعد بلفور عام 1917، ووفر الاستعمار البريطاني الظروف المناسبة لتحقيق حلم الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويقول بالتاسير إنه “على مستوى ما، يمكنك القول إن الصهيونية هي مزيج سام من القومية الأوروبية والإمبريالية البريطانية التي تستمد تراثها من خزان ثقافي ترفده الأساطير اليهودية”.
الولاء المزدوج
واعتبر الأكاديمي الأميركي، الذي نشأ في أسرة يسارية، أنه قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بعد ذلك بقليل كان معظم اليهود لا يحبون الصهيونية؛ فهناك النقد الليبرالي لها خاصة في الولايات المتحدة الذي نظر لتأسيس إسرائيل باعتباره تشكيكا في الانتماء الأميركي لليهود المقيمين في الولايات المتحدة، ونوعاً من ازدواج الولاء الذي يهدد الاندماج في الثقافة الأميركية.
واستدرك “لكن بالنسبة لليسار اليهودي -اليسار الشيوعي والاشتراكي والتروتسكي والماركسي- جاء نقدهم للصهيونية ضمن نقد القومية والاستعمار؛ لقد فهموا الصهيونية كحركة قومية يمينية، وبهذا المعنى، برجوازية” وأيضاً نظر إليها باعتبارها امتدادا للإمبريالية البريطانية.
لكن ذلك تغير في أربعينيات القرن الماضي في زمن الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد المحرقة اليهودية، رغم أن اليسار اليهودي الأوروبي كان مدركاً أن تأسيس دولة يهودية في فلسطين سيعني مشروعاً استعمارياً يطرد السكان الفلسطينيين من أرضهم.
وفي خطاب ألقاه إيرل برودر، رئيس الحزب الشيوعي في مانهاتن، أعلن أنه لا يمكن تشكيل دولة يهودية إلا من خلال طرد ربع مليون فلسطيني.
ويؤكد الأكاديمي الأميركي أن الصهيونية كانت مجرد خيار سياسي لدى قيادة الحركة اليهودية، وكافح بعضهم للهجرة إلى الولايات المتحدة، ويستشهد باقتباس مشهور منسوب لإرنست بيفين، وزير الخارجية البريطاني، الذي قال إن السبب الوحيد وراء إرسال الولايات المتحدة اليهود إلى فلسطين هو “لأنهم لا يريدون الكثير منهم في نيويورك”.
التحرر من الإمبراطورية
ويؤكد الأكاديمي الأميركي أن أي نضال تحرري سيأتي من المضطهدين أنفسهم، لذا فإن حركة التحرير الفلسطينية هي من سيضع قواعد النضال الفلسطيني، ولكن بالنسبة لليهود في الولايات المتحدة فبإمكانهم التضامن مع الآخرين المضطهدين.
ويعتبر بالتاسير أن الحرب الباردة دمرت اليسار اليهودي القديم ومنظماته، وتحول بقيته نحو الصهيونية في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، مستنكراً اختيار اليهود الأميركيين التوافق مع ” مشروع إمبراطوري أميركي، وأشخاص مثل جاريد كوشنر” على حد تعبيره.
ومؤخرا، نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية تقريرا، تناول بعض قصص المثقفين المهاجرين من إسرائيل الذين أسس بعضهم حركات سياسية أو ترأسوا منظمات يسارية وجمعيات حقوقية، قبل أن يُجبَر بعضهم على ترك وظائفهم الأكاديمية بسبب المعتقدات والأنشطة السياسية، بعدما شعروا أنه لم يعد بإمكانهم التعبير عن آرائهم في إسرائيل دون خوف، ولم يعد لديهم مكان داخل المجتمع الإسرائيلي.
وغادر العديد من نشطاء ما يسمى اليسار الراديكالي في العقد الماضي، وبينهم مؤسسون لبعض أهم المنظمات غير الحكومية، مثل: بتسيلم، وكسر الصمت، وائتلاف النساء من أجل السلام، وذاكرات، ومتسبين، والأخيرة هي حركة اشتراكية معادية للصهيونية أسسها مطلع ستينيات القرن الماضي أعضاء سابقون في الحزب الشيوعي الإسرائيلي ناصروا حل دولة واحدة تضم السكان العرب واليهود.