بالرغم من انشغالي بطفلتي التي أمضيت عدّة أيّام في المشفى أجرى لها تحاليل يطلبها طبيب الأطفال “مولود تشاغداش” تارة وطبيب الكلية “كنان يلماز” تارة أخرى، ولا أحتاج أن أصف شعور الأب على ابنه أو ابنته التي تمرّ بوعكة صحّية، فهو شعور يضاهي أيّ كلمات للوصف أو التّوصيف، لفتت انتباهي امرأة تبيع السميت أمام باب المستشفى.
ففي يومنا الثالث من الذهاب إلى مشفى “التدريب والأبحاث في شانلي أورفا” أو كما يسميها السوريون “مستشفى الثمانمائة” أو “مستشفى الأيوبية” وبعد أن أجرينا التحاليل المطلوبة في ذلك اليوم، طلبت مني صغيرتي أن أشتري لها كعكة “سميتة” فهي تنسى آلام الأبر ورائحة المشفى عندما تشتمّ رائحة السميت.
خرجت مسرعاً إلى باب المستشفى الرئيسي, فهناك يوجد العديد من بائعي السميت الذين يبحثون عن الرزق الذي يعيلون به عائلاتهم في هذه البلاد البعيدة عن ثرى وطن ربّما كانوا فيه أثرياء.
قادتني قدماي نحو امرأة تجلس على كرسي وأمامها وعاء وضعت فيه بعضاً من كعك السميت لبيعه, وما إن اقتربت منها حتّى بادرتني بإبتسامة الأم الحنونة محاولة التحدّث بما تعلمته من بعض كلمات اللغة التركية “بويرون, سميت بير مليون”.
“السلام عليكم يا خالة, أريد كعكتي سميت من فضلك” فرفعت وعاء الغطاء عن الكعك وأجابت “اختر الكعكة التي تحلو لك” ولفت انتباهي حينها أنّ المرأة بقدم واحدة على كرسي متحرّك فسألتها “من أين أنتِ يا خالة وما اسمك تكرّماً!!؟”
فأجابت وهي تعدّل من وضعية الغظاء الذي تغطي به قدميها على الكرسي وتحضّر كيساً لتضع فيه الكعكات التي سأختارها من الوعاء “بينادوني أم حسن وأنا من حلب من الصاخور يا ابني وإنت من وين!!!؟”
“أنا من ادلب يا خالة” ووقفت أرقب ما ستقول فقد انتابني إحساس غريب بأنّها تودّ أن تقصّ عليّ بعضاً مما يجول في خاطرها أو ربّما تريد أن تفضي إليّ ببعض همومها في هذه البلاد البعيدة, فبدأت الحديث قائلة: “الله يفرجها علينا جميعاً يا ابني, والله عم بيع السميت أنا وابني حسن هون على باب هالمشفى أحسن ما نمد إيدنا للناس”.
أشارت بيدها التي قسى عليها الزمن فجعل الارتجاف أحد سماتها وصفاتها وقالت بصوتها الحزين : “هداك يلي عند الباب الكبير لابس طاقية حمرا ابني حسن, عمره 13 سنة, ببيع سميت ومنتساعد على مصروف البيت”.
“وأين أبا حسن, هل هو في سوريا أم هنا في تركيا أيضاً!!!؟”
فوضعت أم حسن يدها على قدمها المبتورة والدمعات تسيل على وجهها المجبول بآلام الحياة وقالت: “آآآآخ يا ابني, نزحنا من الصاخور على ضيعة صغيرة اسمها (تل شعير) شمالي حلب, ورجعت أنا وأبو حسن عالصاخور مشان نجيب غراض من بيتنا لأن لما طلعنا منه ما أخدنا معنا شي, وقصف النظام الصاخور وتوفى أبو حسن وأنا انصبت برجلي وجابوني إسعاف على تركيا وقطعولي ياها”.
قطع حديثنا عدد من الأطفال الذين اشتروا السميت من أم حسن بعد أن أجهدوها بخياراتهم الصعبة, فهذه المهنة كما تقول أم حسن أصبحت مقيته ومملة “والله يا ابني بيجيني ناس بيخلونا أكره الساعة يلي عم بيع فيها سميت, بس شو طالع بالإيد بدنا نعيش” ومن ثمّ عادت لسرد قصتها وقد أعادت وضع يدها على قدمها المبتورة تدلّكها برويّة “ضليت حوالي الأسبوع بالمشفى وولادي بالضيعة لحالن وأكبر واحد فين هاد حسن ووقتها كان عمره 9 سنوات بس, وبعدها في ولاد حلال ساعدوني وجابولي ولادي لهون ع تركيا وجينا على أورفا طالعنا كمالك وقعدنا ببيت على قدنا, والحمد لله عايشين”.
فما كان مني إلاّ أن أخفّف عنها وعنّي في غربتنا وعلى وطننا الذي أغرقه النظام بدماء وأشلاء أبنائه الأبرياء وقلت لها : “الحمد لله على كلّ حال يا خال… أسأل الله الفرج القريب لنا جميعاً ونعود إلى ديارنا بعد تحريرها من طغيان الأسد ومسؤوليه”.
فأجابت بحرقة ألم ظهرت جليّا في صوتها “إن شاء الله يا ابني.. أنا جيت لهون ورجلي ما رضت تعيش برا سوريا وضلت هنيك لتكون شاهد ودليل على ظلم بشار الأسد وكل واحد بيشد على إيده”.
بقلم: محمد المعري
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع