أمام مكتبي الصغير، مرت سنواتي الدراسية، كنت أستأنس به و بين كتبه المتنوعة وأقضي معه ليالي الشتاء الباردة، ادرس و استمتع بزخات المطر و هي تدق نافذة غرفتي الصغيرة، انقضت سنوات الدراسة العصيبة الجميلة وطرق سوق الشغل بابي و حصلت على عقد عمل في فرنسا، فرحت كثيرا لهذا وأخيرا سأستقل بذاتي، كذلك كانت فرحة أهلي وخاصة أمي، لقد جاءت فرصة التغيير.
جاء اليوم الموعود يوم الرحيل للديار الغربية استقلت بطائرة نحو باريس، مدينة الأحلام و الفرحة تشق أعماقي وصلت المدينة، وما أن دست قدمي ترابها حتى أصابتني الدهشة، أنني في كوكب آخر، حياة أخرى مختلفة عن عالمي الشرقي المتواضع، عقارات شاهقة و محلات فاخرة و شوارع فخمة قلت في نفسي ” حقا أنها جميلة، أظن أن الحياة هنا أجمل بكثير أنا متحمس جداً “.
لكن بعد أيام ليست بالكثيرة اجتاحني شوق عظيم لأحبابي وخاصة أمي رغم أنني كنت اتواصل معهم يوميا على شاشة الإنترنت إلا أن ذلك لم يطفي نار الشوق هذه التي كانت تزداد اشتعالا يوما بعد يوم.
مرت شهور عدة و أدركت بشاعة مدينة الأحلام و علمت أن هذا البلد المزين بمصابيح الحرية المطلقة و المساواة، لا يوجد في صميمه إلا كميات الحقد و العنصرية والتمييز، أدركت أنني لا أعيش سوى كغريب، نعم كلمة غريب هذه التي أثقلت كاهلي و أرهقت قلبي، شأنها شأن العربي المسلم هذا الإنسان المغترب الذي يتساوى مع الأشياء الجامدة هناك، والذي تلاحقه نظرات استحقار واستهزاء في كل حين، هذا ما أثار غضبي بل و كرهي لهذه المدينة الشبح.
صدمت بالواقع المرير اللإنساني و بهذا المجتمع العلماني الذي يصفه الأغلبية بالحرية والمساواة الوهمية طبعا، أدركت أن حرية الأديان والمعتقدات وحقوق الإنسان وكل هذا سوى كلمات تزين كتب القوانين والأعراف و لا وجود لها في الواقع، عرفت أنني مرفوض بإسلامي بعروبتي و مبادئي وأخلاقي التي غرست فيني منذ نعومة أضافري، ففي عابر الأيام اسمع خبر إغلاق مسجد و أخرى اعتداءات فرنسيين على مسلمين و عرب و المحجبات من النساء.
وتيقنت أن لا حياة ولا حرية ولا مكان لي هنا، وخصوصا ما أسمعه عن قصص أصدقائي كفارق الأجر بين المسلمين والعرب والفرنسيين وطبيعة العمل الموزع عنهم كفرنسيين وعرب مسلمين، مما أثار سخطي فعلا و كدت اختنق من الهواء الذي اتنفسه هناك و عزمت العودة فعليا لوطني، قضيت سنين عقد العمل بصعوبة كبيرة و قررت المغادرة نهائيا وها أنا في بلدي الحبيب الذي لا صراع فيه بين الوطني والأجنبي وبين المسلم وغير المسلم.
هناك الكثير ممن يعيشون نفس قصة رامي، فقضية التمييز والعنصرية مع العرب والمسلمين قد فاقت كل التوقعات، ولا بد أن يدق ناقوس الخطر لأجل ذلك و لا بد من تطبيق فعلي وواقعي لحرية الأديان ومبدأ المساواة، لا أن تبقى حبر على ورق و افتخارا بها في المنابر والملتقيات.
بقلم : صليحة اضبيّب
المركز الصحفي السوري