القدس العربي – مالك التريكي
كتب مستشار الرئيس الروسي فلاديسلاف سوركوف أخيرا أن ما نرى من الأنظمة السياسية في الدول الغربية ما هو إلا ظاهر خدّاع ركّب عمدا للتستر على حقيقة الدولة العميقة، حيث أن ما «ينبعث من أعماق هذه السلطة الباطنة ومن ظلماتها هو سراب الديمقراطية المهيبة وأخيلتها التي صنعت من أجل الجماهير: أي وهم الاختيار، وشعور الحرية وأحاسيس الأفضلية». أما النظام الروسي فإن ميزته أنه سليم معافى من هذه الثنائية: إذ إن «نظامنا السياسي يبدو، مثل كل شيء عندنا، أقل تهذيبا وتشذيبا وصقلا، ولكنه على أية حال أكثر نزاهة. فنظامنا ليس منقسما إلى دولة عميقة ودولة ظاهرية، بل هو كل متكامل وجميع مكوناته واضحة للعيان».
إلا أن مقولة الظاهر والباطن هذه عديمة الأساس. بل كل ما في الأمر أن الدول الديمقراطية تنطوي على ثنائية بين التمثيل السياسي والتصريف الإداري، أي بين نواب ينتخبون لولاية محددة وبين إدارة متصلة نسبيا في الزمن. وعادة ما تكون هذه الثنائية التكوينية مصدرا لتوترات قد تنجم عنها بعض انزلاقات، ولكنها ثنائية واضحة معلنة لا أسرار فيها ولا مؤامرات. وقد تمت معالجتها منذ قرنين في نظرية الدولة الحديثة التي وضعها هيغل والتي سعت إلى التأليف الجدلي بين المكونين السياسي والإداري في الدولة وإلى معالجة التوترات الملازمة لها عن طريق الاحتكام إلى المصلحة العامة.
ولكن مستشار بوتين لا يهتم لمثل هذه الحقائق. لماذا؟ لأنها تعترض سبيل النظرية. وإنما كل همه أن يبرهن، ايديولوجيّا، على زيف الأنظمة الغربية و«نزاهة» الأنظمة اللا-ليبرالية الحاكمة في روسيا، وبولندا والمجر، الخ. وهذه أنظمة تحكم باسم الأغلبية الانتخابية ولكنها تنكر حقوق الإنسان وحقوق الأقليات. أما أبرز ما يجمع بين حكامها وشعوبها فهو كراهية الأجانب من طالبي الهجرة أو اللجوء. أي أن الأنظمة اللا-ليبرالية هي ديمقراطيات ولكنها ضد الحقوق.
ولهذا فإن مقولة الظاهر والباطن هذه ما هي إلا نتاج إعادة تدوير (أو «رسكلة»، كما يقال في المغرب العربي) لمقولة كانت رائجة لدى الشيوعيين، وهي أن الديمقراطية الليبرالية هي مجرد إخراج شكلي يتلخص في حرية التصويت والتعبير والخروج في المظاهرات، أما الديمقراطية الحقيقية، كما هو معلوم، فهي الديمقراطية الشعبية التي ازدهرت في الاتحاد السوفييتي. وإذا كان المستشار قد تولى التشخيص والتنظير، فإن الرئيس قد مضى خطوة أبعد وتولى مهمة التنبؤ بما يخبئه التاريخ. حيث أعلن بوتين قبل أيام أن الاتحاد الأوروبي سينفرط بحلول عام 2028! وبما أن النبوءة الجريئة تستدعي تعليلا، فقد قال شارحا إن بعض دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد ستبلغ في غضون عشرة أعوام درجة من التنمية الاقتصادية تجعلها في غنى عن الدعم الذي تحصل عليه من ميزانية الاتحاد. ولهذا فإنها ستصير ملزمة بالمساهمة في تمويل الميزانية، تماما مثلما كان شأن بريطانيا ولا يزال حتى اليوم.
وبناء على هذا التماثل الافتراضي، قال بوتين إنه قد تنشأ في دول أوروبا الشرقية مبادرات مثل «المبادرات التي برزت في بريطانيا». والمعنى أن الرئيس الروسي يتوقع أنه ستتبع البركسيت حالات طلاق أخرى لا بد أن تنتهي بانفراط العقد الأوروبي. وهذا أمر لا يتوقعه بوتين مجرد التوقع بل إنه يسعى إليه سعيا، بدليل ضلوع روسيا في الحملات الفيسبوكية الهادفة للتأثير في الناخبين في بعض البلدان الأوروبية، وبدليل رفض حكومة بوريس جونسون نشر التقرير الاستخباري عن التدخلات الروسية في حملة الاستفتاء على البركسيت عام 2016، وبدليل الدعم المالي الذي تقدمه روسيا للأحزاب اليمينية المنادية بالخروج من الاتحاد الأوروبي، مثل حزب التجمع الوطني الفرنسي (الذي كان يعرف باسم الجبهة الوطنية).
أما لماذا يتوقع بوتين انهيار الاتحاد الأوروبي في غضون عشرة أعوام؟ فذلك لأن هذه، في تقديره، هي الفترة التي استغرقها مسار التضعضع والتفكك الذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي أواخر عام 1991. انهيار لا يزال يحز في نفسه لأنه «أعظم مأساة جيوسياسية تقع في القرن العشرين».