العميد أحمد رحال
أفرزت الثورة السورية الكثير من المستجدات على الساحة العربية والإقليمية والدولية, ولعل أبرز تلك المستجدات هو إعادة التموضع السياسي وإعادة منظومة الاصطفافات الاقتصادية والعسكرية والسياسية وبروز تحالفات جديدة ما بين شرقٍ وغربٍ استطاعت أن تظهر وبوضوح كل الخلافات الكامنة والمخفية في سياسات الدول.
بعد قرابة الأربعة أعوام من عمر ثورة الشعب السوري, لم تقتصر النتائج الكارثية لسياسات وخيارات “بشار الأسد” الأمنية والعنفية على الوضع الداخلي من قتل ودمار وتفتيت البنية التحتية والقضاء على النسيج الاجتماعي للسوريين فحسب بل تطورت لتشمل الدول المحيطة بسوريا.
على المستوى العربي خسر “الأسد” معظم حاضنته العربية بعد ارتمائه بحضن السياسات الإيرانية ليصبح عنصراً فاعلاً في مشروع فارسي بعيداً كل البعد عن أهداف السوريين والعرب وتطلعاتهم وفقط سانده منهم من يتقاسم وإياه حكماً طائفياً كـ(المالكي في العراق) أو قومجياً صاحب شعارات ولافتات مقاومة وممانعة كـ(الجزائر والسودان), أما إقليمياً فقد خسر (الأسد) العلاقات الاقتصادية والسياسية المميزة مع الجارة تركيا وعالمياً فقد كل صلاته الخارجية مع الغرب بعد أن مسح وزير خارجيته “المعلم” أوروبا عن الخارطة. .
الحرب الاقتصادية التي نشبت مؤخراً والتي تكللت بهبوط أسعار النفط إلى أرقام غير مسبوقة وهزت اقتصاد دول كانت تتسم بالاستقرار ولكن عصفت بها مغامرات قراراتها السياسية وتأتي في مقدمة تلك الدول كلاً من إيران وروسيا.
يقولون: السياسات الأمريكية تتصف ببعد النظر وطول الأجل, أما السياسة السعودية فتتصف ببطء التجاوب لكنها حكيمة النهايات, وعندما يلتقي بعد النظر الاستراتيجي مع الحكمة السياسية يكون ثمن هذا التحدي الذي أقدمت عليه كلاً من روسيا وإيران اتجاه الثورة السورية ثمناً اقتصادياً باهظاً يكاد يعصف بها. وهذه ما دفع أحد المعلقين إلى القول: إن الغرب مدعوماً بدول النفط الخليجية سيكسب الصراع مع روسيا وإيران في حالة تحوله إلى صراع يتم خوضه بالمال والنفط بدلاً من صراع الدبابات والمدافع.
هذه التحولات وتلك السياسات النفطية دفعت بإيران لتحسس الخطر القادم وليخرج الرئيس الإيراني “حسن روحاني” عن صمته صارخاً باجتماعاً لحكومته قائلاً: أن “انخفاض أسعار النفط ليس مجرد أمر عادي أو اقتصادي وليس نتيجة الركود العالمي فقط.. السبب الرئيسي هو مؤامرة سياسية حاكتها دول بعينها ضد مصالح المنطقة والعالم الإسلامي وتصب في صالح بعض الدول الأخرى فقط”.
إيران التي انبرت لتعوض “الأسد” عن خسارته كافة منشآته النفطية, وتبرعت له بتسهيلات ائتمانية قدرها (3.6) مليار دولار لشراء منتجات نفطية، مع تخصيص مليار آخر لشراء منتجات غير نفطية, لكن تقلبات أسعار برميل النفط الأخيرة هزت اقتصاد “الأسد” الخائف من انعكاسها على تلك الهبات الإيرانية مما دفع عضو بارز في غرفة الصناعة في دمشق للقول: “الهبوط الشديد في أسعار النفط سيقصم ظهر إيران، وليس فقط مستوى دعمها للأسد””.وهذا أيضاً ما دفع برئيس حكومة “السلطة الأسدية” للهرولة إلى طهران متوسلاً الحصول على تطمينات بأن طهران ستحافظ على الوضع الراهن للمساعدات بعد أن انخفضت الأسعار العالمية للنفط بنسبة (50%) منذ يونيو/ حزيران الماضي.
أما على المقلب الآخر لدافعي ثمن السياسات الخاطئة والمقصود روسيا فقد دفعت أثماناً كارثية هزت الاقتصاد الروسي الذي أنتقل خلال السنوات الخمس الأخيرة من مديونية كبيرة إلى وفر مالي بالعملة الصعبة تكدس في أدراج البنك المركزي الروسي ودفعت بالمديونية الخارجية إلى نسبة متدنية وصلت إلى (10%) وهو رقم صحي وجيد بين اقتصاديات الدول, لكن تهاوي أسعار بيع برميل النفط كلف الاقتصاد الروسي حتى الآن خسارة ما يقارب الـ(100) مليار دولار يضاف لها خسارة ما قيمته الـ(40) مليار أخرى نتيجة هبوط سعر صرف الروبل أمام الدولار الأمريكي, وهذا ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اتهام السعودية والولايات المتحدة بحياكة مؤامرة ضد روسيا وحلفائها كون السعودية أكبر المنتجين المؤثرين في أسواق النفط العالمية, وأضاف بوتين خلال المؤتمر الصحفي السنوي الموسع الذي يعقده عادة قبل نهاية العام، أن الوضع الحالي للأسعار في سوق إنتاج النفط والغاز الصخري وصل إلى سعر التكلفة، مشيرا إلى أن الحفاظ على الأسعار عند هذا المستوى سيؤدي إلى انهيار عمليات إنتاج النفط.
هذا من الناحية الاقتصادية أما من الناحية العسكرية فقد وصلت لآذان واشنطن والرياض ما قاله الفريق يحيى رحيم صفوي، القائد السابق للحرس الثوري الإيراني والمستشار العسكري الحالي للمرشد الإيراني الأعلى، “من أن حدود بلاده الحقيقية ليست كما هي عليها الآن، بل تنتهي عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر الجنوب اللبناني”. وأيضاً لم تكن أعين واشنطن والرياض مصابة بالرمد وهي ترقب التمدد الإيراني في كلاً من سوريا ولبنان والعراق ومن بعدها تمدد الحوثيون في مدن اليمن, لكن تلك التمددات الإيرانية (أعتقد) أن لها ثمناً ستدفعه من خلال حرب استنزاف أرادتها الولايات المتحدة الأمريكية لقدرات إيران العسكرية وسيكون لها ثمناً باهظاً يطيح بكامل المشروع الفارسي بالنهاية وتعيد سياسات إيران إلى الحظيرة الداخلية خالية الوفاض لتنكفئ على إصلاح وضعها الداخلي الذي ينذر بربيع فارسي يطيح بالسلطة هناك وبشكل لا يختلف بمضمونه عن الربيع العربي الذي أطاح برؤوس لم تكن تتوقع نهايتها في هذا العصر.
“حزب الله” وأمينه العام الذي زج بنفسه في الداخل السوري بحجة حماية العتبات المقدسة مدفوعاً بأوامر ولاية الفقيه, والحزب الذي راهن على قوته وهالته الإعلامية التي صنعتها له قنوات “الممانعة والمقاومة” من بطولات وهمية –كرتونية, هذا الانغماس, دفع ثمنه غالياً في داخل لبنان وعربياً بعد انحسار وانكشاف دوره الفارسي في المنطقة وتحوله لميلشيا عسكرية ترضخ لأوامر وسياسات إيران العبثية في المنطقة.
أما في الوضع الداخلي السوري فقد انطلقت الصيحات المزمجرة في مناطق سيطرة النظام وبين طائفته, بعد ارتفاع جنوني بأسعار المواد الأساسية لعيش المواطن وبعد أن أصبحت قارورة الغاز وصفيحة البنزين حلماً للمواطن السوري الذي يعيش في الساحل السوري وريف حماه ومدينة دمشق, إضافة إلى فقدان الأسواق لكثير من المواد التموينية وبروز ظاهرة السوق السوداء لأسعار السلع الأساسية لمعيشة المواطن والتي يسيطر عليها تجار النظام وحاشيته, خصوصاً إذا ما أُضيف ذلك إلى الوضع الأمني المتردي من خطف وتشبيح طال الجميع.
وترافق هذا الوضع الاقتصادي المتدهور مع تزايد أعداد القتلى من طائفة النظام, حيث باتت منافذ المدن وبواباتها تعج يومياً بعشرات القتلى الواصلين من ساحات القتال, ولدرجة لم يعد حلفاء الداخل قادرون على تحمل تلك الأثمان الغالية التي يجبرهم “الأسد” على دفعها من أرواح أبنائهم وإخوانهم مقابل حفاظه على كرسي السلطة.
إذا فرأس الطائفة العلوية هو أول من أطاح به “الأسد” لحفاظه على سدة السلطة ومن بعده سيأتي رأس “حسن نصر الله” والدور قادم على رؤوس إيران وروسيا, فهل ينتظر هؤلاء الإطاحة بهم أم يسارعون للإطاحة برأس ” الأسد” ؟؟؟
ننتظر … فقادمات الأيام تحمل لنا الإجابة الشافية.