حكاية بدأت مع كتابات أطفال درعا شعارات مناوئة للنظام السوري على جدران مدارسهم ، ” يسقط النظام” و ” حرية للأبد” و “جالك الدور يا دكتور”، واستمرت منذ ذلك الوقت حتى الآن ظاهرة البخ على الجدران لترسم صور وعبارات انتشرت على كافة جدران المدن والمحافظات السورية، فجرت ما كان قد خزنه الشعب السوري في مخيلته من ظلم وقهر على مدى خمسين عاما، لم يرى من قبلها سوى صور حافظ الأسد وأولاده وعبارات تبجيل وتقدير لهم ورموز تدل على سلطة النظام التي احتلت كل شيء في سوريا حتى الجدران.
إنه مواطن عادي، ليس فنان ولكن يده كانت تخط أجمل عبارات التحدي والحرية، تولى الرجل البخاخ في الثورة السورية مهمة تحرير الجدران من تلك العبارات التي احتلها النظام واستبدلها بعبارات تعبر عن بداية تحدي الشعب السوري للنظام وميلاد الأمل في الحرية، حتى أصبح الرجل البخاخ يصور أحلام السوريين و معاناتهم على الجدران.
وقد ساعد الفن الغرافيتي الرجل البخاخ في مهامه بزيادة الوعي الثوري واستنهاض الهمم. يتسلل الرجل البخاخ في سوريا في الظلام الدامس ليلا، خوفا من أن يقع في قبضة رجال الأمن أو الشبيحة، ويرتدي قناعا يغطي وجهه برفقة عدة شبان ويحمل معداته في حقيبة يد صغيرة، و يخرج الرجل البخاخ قلمه أو علبة الألوان ويبدأ في رسم عبارات مناوئة للنظام.
استفزت عبارات الرجل البخاخ رجال الأمن، فسارعوا لمحو تلك العبارات التي خطتها يد الرجل البخاخ وتبدأ حملة التحقيق والتفتيش عنه، تكون على الأغلب فاشلة، ثم يخطوا عبارات تحدي، ” الأسد أو نحرق البلد” أو ” الأسد أو لا أحد”، معارك كر وفر لا مكان فيها للهزيمة للرجل البخاخ ويمسح عباراتهم ويكتب عبارات أكثر تحدياً من جديد.
ومع انتقال الثورة السلمية إلى مرحلة التسليح، تابع الرجل البخاخ عمله تحت القصف موجها انتقاداته للاستبداد والظلم الذي يمارسه النظام، حيث قامت قوات الأمن السورية بفرض حظر على بيع البخاخ والدهان في جميع محال بيع الدهان واشتراط إبراز الأوراق الثبوتية للمشتري، كرد فعل على تلك الكتابات والعبارات التي تستفزها.
أصبحت كلمات الرجل البخاخ تطلق رصاصا كالبنادق والرشاشات تعبيرا عن رفض الشعب للنظام، مما دفع النظام لزرع جواسيس لملاحقة البخاخين وقتلهم، ومن البخاخين المعتقلين “أحمد الخاينجي و “عدنان زراعي “الرجل الذي استعار منه الناشطون كلمة الرجل البخاخ ، الممثل وكاتب السيناريو الذي ينحدر من حي بابا عمرو في مدينة حمص واشتهر بكتاباته الدرامية الجريئة، منها حلقة الرجل البخاخ ضمن سلسلة بقعة ضوء، ولم يعرف عنه شيء حتى الآن.
كانت دعوة البخاخ في بقعة ضوء من قبل النظام السوري أن يرسم ويكتب ما يحلو له على جدران بيضاء، على مبدأ سأسمح لك بأن تقول ما تشاء وأنا سأفعل ما أشاء. وكعادته النظام يواجه أصحاب الكلمة بالقتل والاعتقال، فلقي بعض من الرجال البخاخين مصرعهم على يد قوات الأمن ليدفع الرجل البخاخ حياته ثمنا لكلماته عن الحرية وكان منهم ، محمد نور من دمشق و محمد راتب من حمص.
محمد راتب المعروف باسم “النمر” وكان العدو الأكبر لقوى الأمن ، فعرفوا مكانه من خلال وشاية مخبر ليصيبوه برصاصة في ظهره و أخرى في قلبه مما أدى لاستشهاده، لكن كلماته بقيت محفورة في عقولنا وليس على الجدران فقط.
لم يكتف الرجل البخاخ بأن يوجه نقده للنظام و الاستبداد فقط، بل تعدى الأمر إلى نقد المعارضة من خلال عبارات مثل ” من سيحكم البلد أهل الخنادق وليس أهل الفنادق” و ” الثورة تذكرة دخول لا تذكرة خروج”. أما في هذه الأيام ، فقد انتشرت الكتابة على الجدران لتصبح مشوهة من كثرة العبارات، وتتحول كبديل عن اللوحات الإعلامية في كافة المدن السورية وفي أثناء الاقتحامات عند طرفي النزاع إضافة إلى المساندين لهم وتبادل الاتهامات والتهديدات والتعبير عن الآراء والأهداف.
فترى بعض الميليشيات الإيرانية والعراقية وحزب الله تكتب عبارات تمجد آل البيت و تتوعد بمزيد من القتل والدمار، و تارة ترى بعض الفصائل المتشددة تنشر الدعوة للالتزام بالدين و الأخلاق واللباس الشرعي، لينتقل الصراع من الأرض والسماء إلى الجدران التي كادت تتحرر في بداية الثورة من العبودية والاستعباد.
سلوى عبد الرحمن
المركز الصحفي السوري