مطالب الولايات المتحدة بمثابة ضغوط قد تصل إلى مرحلة خنق أوروبا وشركاتها الاقتصادية.
في قلب المعارك التجارية الكبرى التي تخوضها الولايات المتحدة ضدّ دول الشرق وفي مقدّمتها روسيا والصين، بدا واضحا من خلال الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الإدارة الأميركية، أن الولايات المتحدة ترغب في إقحام أوروبا وتوظيفها في حربها ضد روسيا عبر خنق شركاتها الاقتصادية.
ورغم أن الولايات المتحدة تبدو في الظاهر طالبة المساعدة من الدول الأوروبية في حربها ضد روسيا، إلا أن الخطوات الفعلية تشير إلى أن تحركاتها في هذا الاتجاه هي بمثابة ضغوط قد تصل إلى مرحلة خنق أوروبا وشركاتها الاقتصادية، خاصة في ما يتعلق بخط أنابيب “نورد ستريم2-”.
وبدت دعوة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الطاقة، فرانك فانون، منذ 11 ديسمبر الماضي، للدول الأوروبية على التخلي عن تعاونها مع روسيا بشأن مشروع خط أنابيب “نورد ستريم2-” بمثابة دعوة للمساعدة على الإطاحة بروسيا.
وحث فانون أوروبا على ذلك بقوله “إنها ليست مشاريع تجارية؛ بل هي أدوات سياسية”، مضيفا أنه “من خلال نورد ستريم2-، تسعى روسيا إلى زيادة نفوذها على الغرب في الوقت الذي تفصل فيه أوكرانيا عن أوروبا”.
موازاة مع هذا الطلب الذي بدا لبقا ومحترما لإرادة أوروبا، صوت مجلس النواب الأميركي بالإجماع في نفس اليوم على أنه يجب على ترامب أن يفرض عقوبات قد تصل إلى مليارات الدولارات، ضدّ أي شركة أوروبية تشارك روسيا في مد خط أنابيب “نورد ستريم 2-” الروسي لتزويد أوروبا بالغاز.
الكونغرس الأميركي يحذر الشركات من التعامل التجاري مع روسيا، لأن الحكومة الأميركية عاقدة العزم على إنهاء أي عمل من هذا القبيل
جاء هذا “القرار” تحت عنوان “التعبير عن المعارضة لاستكمال نورد ستريم2-، ولأغراض أخرى”، وتم إطلاقه من خلال التأكيد على أن مجلس النواب الأميركي “يدعم فرض العقوبات في ما يتعلق بمد خط أنابيب نورد ستريم-2 بموجب القسم 232 من قانون مواجهة خصوم أميركا من خلال فرض قانون العقوبات”.
ويحذر الكونغرس الأميركي الشركات من التعامل التجاري مع روسيا، لأن الحكومة الأميركية عاقدة العزم على إنهاء أي عمل من هذا القبيل، وربما تغريمه أيضا. وتفرض حكومة الولايات المتحدة إرادتها كما لو كانت دكتاتورا على العالم بأسره، دون الحاجة إلى استخدام قوتها العسكرية، وإنما باستخدام قوتها الاقتصادية.
ويؤكد المراقبون، أن هذا التمشي السياسي الذي تسلكه الولايات المتحدة هو نتاج لرؤى وتصورات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشعبوية والقائمة أساسا على مقاربته التي يكررها باستمرار والكامنة في منطق “الدفع مقابل الحماية”.
هذا التصور الأميركي، أكده ترامب مؤخرا بقوله في تغريدة عبر حسابه على تويتر، إن “أوروبا عليها أن تدفع حصة عادلة من أجل حمايتها العسكرية. الاتحاد الأوروبي استغلنا لسنوات طويلة على صعيد التجارة، وبعدها لا يقدم التزاماته العسكرية عبر الناتو (حلف شمال الأطلسي)؛ الأمور يجب أن تتغير سريعا”.
كما تطرق لهذا الطرح، المحلل السياسي الأميركي إريك زوس في تحليل بموقع “أميركان ثنكر” تحت عنوان “الولايات المتحدة تطالب أوروبا بالانضمام إلى حربها ضد روسيا”. وأكد التقرير على أنه في العقود الأخيرة، قد تم تجاهل بند الدستور الأميركي الذي يتطلب إعلان الحرب من قبل الكونغرس قبل غزو أي دولة.
علاوة على ذلك، ومنذ عام 2012 عندما أقر الكونغرس فرض عقوبات قانون “ماغنتسكي” ضد روسيا، تم فرض عقوبات اقتصادية من قبل حكومة الولايات المتحدة ضد أي شركة لا تلتزم بالعقوبة الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة. حتى أنه يمكن تغريم الشركة أكثر من مليار دولار كنتيجة لانتهاكها العقوبات الاقتصادية الأميركية.
وهكذا، صارت العقوبات الاقتصادية هي الطريقة التي يعلن بها الكونغرس الأميركي الحرب على أي دولة، وليست الطريقة التي تم وصفها في الدستور الأميركي. ومع ذلك، وفي مرحلة إعلان الحرب الاقتصادية، يتم إعلان الحرب مباشرة ضد أي دولة تنتهك العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة، ضد روسيا أو إيران أو أي دولة أخرى مستهدفة من قبل الكونغرس الأميركي.وبالنسبة للكونغرس الأميركي، فإن تمرير العقوبات الاقتصادية ضد دولة ما يصير بمثابة التصريح للرئيس الأميركي بأن يأمر الجيش الأميركي بغزو تلك الدولة، إذا قرر الرئيس ذلك وليس من الضروري الحصول على تفويض آخر من الكونغرس (باستثناء الدستور الأميركي).
ويشير زوس إلى أن هذه المرحلة الأولية من إعلان الحرب لا تعاقب إلا الشركات المنتهكة في هذه الدول بشكل مباشر، وليست الدولة نفسها. وعلى الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة تعاقب الشركة المخالفة بشكل مباشر، إلا أنها تستهدف بشكل غير مباشر الدولة نفسها، حيث يتم استخدام العقوبات لخنقها.
نظام دونالد ترامب الشعبوي قد يعاقب نفسه بنفسه مع تصاعد حدة الدعوات إلى عزله وإقصائه في ظل تراكم الاتهامات والقضايا المرفوعة ضدّه
ويوضح أن الشركات المرصودة هي مجرد “أهداف ثانوية”، في هذه المرحلة من الحرب الأميركية الجديدة، حيث تقوم الحكومة الأميركية بإجبار الشركات على الانضمام إلى الحرب الاقتصادية الأميركية، ضد الدولة المستهدفة، في هذه الحالة ضد موسكو. فروسيا هي الدولة التي تريد حكومة الولايات المتحدة النيل منها في هذه الحالة.
ولا يملك مجلس الشيوخ الأميركي حتى الآن مشروع قانون مماثل، إلا أن تمرير هذا القرار بالإجماع في مجلس النواب يشكل تحذيرا قويا للشركات الأوروبية، فإذا ما لم تسر وفق العقوبات الأميركية، فسيتم فرض عقوبات مالية ضخمة عليها.
وفي ما يتعلق بخط أنابيب “نورد ستريم2-”، فإن المستفيد الوحيد إذا لم يتم استكمال مشروع خط الأنابيب ووضعه في حيز التشغيل، سيكون شركة “أل.أن.جي” الأميركية وهي منتجة الغاز الطبيعي المسال، وبالتالي حلفاء أميركا كذلك.
وكنتيجة لذلك قد تبدأ حرب عالمية ثالثة في الواقع بسبب تفضيل الولايات المتحدة للشركات الأميركية منتجة الوقود الأحفوري، وحلفائها على حساب كل المخاوف الأخرى المتعلقة ليس فقط بظاهرة الاحتباس الحراري، بل حتى بالسلام الدولي نفسه. تلك هي المصالح الحقيقية، في الواقع، في الحرب ضد العالم بأسره. وهذا ليس ببيان رأي، إنه حقيقة ثابتة، وواقع موثق.
لكن رغم هذه الدكتاتورية التي تمارسها الولايات المتحدة على العالم وخاصة على شريكها الاتحاد الأوروبي ومع تكرّر التساؤل عمّن يقدر على محاسبة واشنطن التي تعاقب الجميع، فإن العديد من الملاحظين يشيرون إلى أن نظام دونالد ترامب الشعبوي قد يعاقب نفسه بنفسه مع تصاعد حدة الدعوات إلى عزله وإقصائه في ظل تراكم الاتهامات والقضايا المرفوعة ضدّه والتي قد تؤدي إلى سجنه وإلى وضع الولايات المتحدة في مأزق دستوري