مع تطور الرأسمالية في أوربا الغربية بدأت ظاهرة عالمية وهي الهجرة
من الريف الى المدينة. كانت هذه الهجرة تلبية لحاجة الصناعة للأيدي العاملة، وبالتالي هجرة دائمة لا عودة فيها للقرى.
التطور البطيء للريف تزامن مع تطور المدينة، وكان الإنتاج الكبير يتطور على حساب الإنتاج الصغير، مما جعل التركيزعلى عمل المصانع الكبرى وشركات البناء والمؤسسات التجارية والخدمية الحديثة يطغى على الحرف والاعمال التجارية الصغيرة.
هذا التطور فُرضَ من القوى الخارجية الكبرى، ولم يكن بسبب ضرورات فرضها التطور الداخلي لنظام الإنتاج الاجتماعي.
لكن المدينة التي لم تكن قادرة على توفير فرص عمل لأبنائها، رفضت المهاجرين من الريف، ووصفتهم بالبطالة لا عمال منتجين.
فأدى ذلك لتفاقم المشكلات السكنية والصحية والتعليمية، ودفع هذا الصنف من المدن المهاجرين للتردد بين القرية والمدينة ليجدوا فرصا عمل هنا وهناك.
إذن، قد تكون الهجرة الريفية في مكان وحقبة تاريخية معينة دافعة للتقدم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والسياسي، أو نتيجة للتخلف في تلكم المجالات.
هجرة الريفيين في سوريا:
بداية ، في فترة حكم الدولة العثمانية، لم يكن هناك تنقل ريفي للحضر بشكل كبير، بل ربما كان العكس.
فالنظام الإقطاعي ما كان يبيح للفلاحين الهجرة للمدن، وكان تشبث الفلاح بأرضه أقوى خصوصاً بعد القروض الربوية التي يدفع الفلاح عنها تصل الى 400 بالمئة سنويا فلم يكن لديه حتى قرار الفرار.
في بدايات القرن العشرين، بدأت البضائع الأجنبية تغرق الأسواق السورية، وانتهت تقريبا الحرف اليدوية، وتحول أصحابها الى عمال مأجورين.
وتحولت المدن الى مناطق للتبادل التجاري بين الداخل والخارج او بين الريف المدينة.
تطورت الخدمات الحكومية وظهرت الشوارع العريضة بين دمشق وحلب وبيروت ومدت خطوط المياه لأول مرة من قبل شركة اجنبية في بيروت عام 1897 وفي دمشق سنة 1908.
كما أدخلت الإنارة المنازل والشوارع، في دمشق و بيروت، كما نشأت مصانع النسيج والأصبغة في المدن الخاصة، وأنشأت الطرق والخطوط الحديدية وبناء المساكن، فانجذب سكان القرى للمدن.
الوضع في ظل الانتداب الفرنسي :
لم تتواصل الهجرة الريفية للمدن، بل ترددت، حسب المواسم الزراعية من جهة، والسياسة والثورات التي نشبت في كل أنحاء سوريا خاصة الثورات الريفية ضد الاحتلال الفرنسي.
يقول خالد العظم أحد ممثلي البرجوازية السورية في حديث له عام 1936:” من العوامل التي تعانيها البلاد في أزمتها الحاضرة، نزوح الفلاحين والقرويين إلى المدينة وتوطنهم فيها، مما أحدث تخمة في النفوس وكثافة عظيمة شلت يد العمل وشوت نسبة التوزيع الصناعي “.
هذه الأوضاع المتردية في المدن بخاصة في دمشق وحلب، لم تكن تشجع الريفيين للهجرة إليهما، فلم تكن تمنحهم وصف عمال دائمين، فلم تكن تلك هي النواة للطبقة العاملة.
اتسمت مرحلة الانتداب الفرنسي بالاستقرار الريفي نوعا ما، وذلك لعدة أسباب منها:
تقسيم البلاد العربية ووضع حدود مصطنعة، الأمر الذي حد من انتقال الريفيين.
مجابهة القوات الفرنسية لهجمات الريفيين على المناطق الحضرية التي كانت نشطة خلال الحكم العثماني.
منح الفرنسيين للعشائر أراضي واسعة من أملاك الدولة والأملاك المصادرة لكسب ودهم، ما أتاح لبعض العشائر الاستقرار نسبيًا.
وأخيراً، على الرغم من الاستقلال السياسي من هيمنة الرأسمالية الأجنبية،
لم تحدث تقدمات تتيح التحول المجتمع الزراعي المتخلف إلى صناعي أو صناعي زراعي متقدم، ولكن الصناعات التي أنشأت في تلك المرحلة أدت إلى
خلق فرص عمل جديدة شجعت هجرة الريفيين للمدينة.
بقلم محمد اسماعيل
المركز الصحفي السوري