يدخل الكاتب برفقة صاحبه الروائي والصحافي مُعدّ البرنامج التلفزيوني إلى حيث تجلس والدته الثمانينية ويصيح بها سائلاً: “أم أنطوان، هل تذكرين اسم كتابي الأول الذي نشرته؟”، (“الموت بين الأهل نعاس”) تجيبه، تلفظ الكلمة الأخيرة “نَعَس”. “ليس موتاً إذاً، هي قيلولة” يقول الضيف، فتؤكد المرأة المسنّة أنه نوم، لتشرح بعدها لابنها وصاحبه أن موت الإنسان بين أهله هو غير موته وحيداً في بلاد الغربة.
نشر الكاتب اللبناني جبور الدويهي مجموعته القصصية الأولى سنة 1990 لينتقل بعدها إلى كتابة الرواية. وكنت قد قرأت له ما تيسّر لي من رواياته، فاستمتعت بسلاسة السرد وبساطة اللغة فيها. ولكنني سمعت باسم هذه المجموعة مؤخراً من خلال ذلك البرنامج، فتحيّنتُ الفرصة لاقتنائها حتى أقرأ قصة ذلك الشخص الذي نام بين أهل بيته حين فارقته الحياة.
ربما لو كانت ظروف بلادنا غير ما هي عليه الآن، لما عَنَتْ لي هذه القصة الكثير، أو بالأحرى لكنت قد قرأتها كما قرأت غيرها من كتب أو روايات. لكن الأمر الآن بالنسبة إليّ مختلف جداً… تصفّحتُ القصص الأربع الأولى من المجموعة هذه بسرعة حتى وصلت إليها، ولم أعرف ما الذي كان يمنعني من بدء القراءة بها. هل هي تمارين الإحماء التي تسبق الدخول إلى أرض الملعب أو الحلبة؟
تدور قصة “الموت بين الأهل نعاس” حول رجل قد عاد إلى بلده بعد غياب طويل في أفريقيا. ولم يخبرنا الكاتب عن سبب عودته، بل اكتفى بسرد قصة تلك العائلة الميسورة التي ينتمي إليها لطف الله، وهو اسم الرجل، ومصائبها.
يشرف منزل لطف الله من جهة حديقته على شرفة بيت تقطنه الفتاة التي يروي الكاتب على لسانها قصته. اعتادت هذه الفتاة أن تشرب القهوة مع والدتها وأخريات عند المغرب يراقبن المكان وهُنّ يشتغلن بالإبرة ويثرثرن. من بين تلك النساء اللواتي يتردّدن على جلسة فنجان القهوة هذه، سيدة أرمنية الأصل يربطها سرّ مع ذلك الرجل فلا تمّل من “الدوران” حوله.
وقد فارق لطف الله ساري الحياة وهو جالس على كرسيه الخيزران على شرفة منزله. ذلك الكرسي الذي اعتاد أن يجلس عليه وبجانبه خادمته التي أحضرها معه من بلد الاغتراب لتقرأ عليه بضع وريقات من كتاب ما. صرخت الخادمة حينها صوتاً التمّ على إثره أهل الحي.
في خضم الحدث، وبينما جمع من أهالي الحي قد ملأ غرفة الاستقبال تخرج الفتاة/الراوية إلى الشرفة لترى كتاباً مرمياً على الأرض قرب كرسيّه، هو ذلك الكتاب الذي كانت تقرأ الخادمة لسيدها منه قد سقط من يدها، ومن حَمَلَ لطف الله إلى الداخل لم يأبه للكتاب بالطبع. تتناول الفتاة الكتاب الأحمر السميك وتقلب غلافه فتقرأ على صفحته الأولى، في أسفلها، جملة مكتوبة بخط اليد “الموت بين الأهل نعاس”.
من باب المصادفة، تذكر قصة الدويهي هذه، ووجود الفتاة الأرمنية فيها، بحادثة عايشناها مؤخراً في مدينة هامبورغ الألمانية، حيث حضرنا جنازة ودفن والد أحد أصحابنا الحلبيين، وهو من أصل أرمني. كانت المقبرة بحجم بلدة كاملة، تدخل إليها السيارات وأيضاً خط باصات عمومية، وتتناثر بين الطرقات، هنا وهناك، حدائق صغيرة تحتضن الأضرحة، كذلك في المقبرة بضع كنائس صغيرة وُجدتْ ليتم فيها الصلاة على الميت قبل مراسيم دفنه. انتهت الصلاة وخرجنا جميعاً لنلقي التراب في حفرة أُنزل فيها التابوت. كان الطقس يومها كعادته مكفهراً بارداً والأرض رطبة كما هو الهواء الذي كان يلفحنا…
يقول الكاتب إن أبطال رواياته هم أشخاص حقيقيون، كما هم اللاجئون… نتخيل الآن كيف سينامون وقد فقدوا الصلة بأهلهم، بلا شمس ولا أُنسٍ ولا حتى قصة تُقرأ عليهم، لا قبل ولا بعد الغفوة الأخيرة.
صدى الشام