صحيح أن التاريخ لا يكرّر نفسه إلا على شكل مهزلة، كما يقول كارل ماركس، إلا أن تأمل صفحات التاريخ وحقباته يبيّن أن ثمة تشابهات قد تتيح المقارنة بينها بلورة رؤية أفضل للحاضر والمستقبل، على مبدأ العلوم المقارنة بعد الأخذ بالاعتبار الظرف التاريخي الذي ولد فيه كل حدث.
تبدو اللحظة التي يعيشها العالم اليوم على الصعيد الدولي شبيهةً، إلى حد كبير، بالتي مر بها بعد الحرب العالمية الأولى، فإذا كانت تلك الحرب قد انتهت بهزيمة الإمبراطوريات (الألمانية والنمساوية المجرية والعثمانية وبلغاريا) ومحورها لصالح الحلفاء (بريطانيا، الامبراطورية الروسية، فرنسا، أيرلندا) فيمكن اعتبارها أيضاً نهاية عصر الإمبراطوريات (الألمانية، الروسية، النمساوية المجرية، العثمانية) لصالح عصر الدولة القومية المكتفية بحدودها، ليولد إزاء ذلك نظام عالمي جديد، عبّرت عنه “عصبة الأمم” التي لم تستطع احتواء الصراع بين الدول وبقايا الإمبراطوريات، لعدم توفر عدالة الحد الأدنى، فبدأت تتشكّل قوى جديدة وتحالفات جديدة للرد على ذلك، حيث شملت مرحلة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، صعود النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، فالأولى نشأت (في أحد أسبابها) رد فعل على الهزيمة الألمانية في الحرب، حيث الاعتزاز بالقومية الألمانية والعرق، وعدم اعتراف صناع القرار بما جرى، دفع هتلر لشحذ الهمم حول قوميةٍ نازيةٍ، تريد أن تستعيد ما فقدته، لشفاء هذا الجرح الذي كان يعتمل في عمق الأمة الألمانية.
تشبه لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي عملياً لحظة انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث انتهى عصر الحرب الباردة، وبدأ نظام عالمي جديد ذو قطب واحد، عمل تدريجياً على إذلال روسيا، وإفقادها كل عناصر قوتها، سعياً إلى إبقائها ضعيفة. ولكن، لأن الحضور القومي الروسي كان حاضراً بقوة، فإن ثقل الشعور بالهزيمة أمام “الإمبريالية” التي لم تف بتعهداتها بعدم التمدّد عسكرياً إلى المحيط الروسي، كان بمثابة الجرح الذي دفع إلى عدم الاعتراف بالواقع الحاصل، فتم العمل، وبسعيٍ حثيث، على استعادة “المجد الغابر”، وهو ما جسّده ويجسده اليوم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كما جسّده سابقا أدولف هتلر، فالاثنان انطلقا من شعور استعادة الماضي التليد، وإعادة حضور بلديهما على الساحة الدولية، بإعادة العمل بمقولة إن “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، وهو ما دفع كليهما للاستعانة بخطابٍ دينيٍّ عنصريٍّ وقوميٍّ نراه واضحاً في خطاب بوتين الذي لا يكف عن معاداة الإسلام السني تحت راية الإرهاب، ولا يكفّ عن دغدغة القومية الروسية، وتعزيز حسّ الممانعة بمواجهة الغرب والاستعانة بالكنيسة الأرثوذكسية، والتأكيد على حضور روسيا في العالم، معتمداً القوة والعنجيهة.
وضع إيطاليا التي كانت خلال الحرب العالمية الأولى بين صفوف الحلفاء يشبه، بطريقةٍ أو بأخرى، وضع إيران اليوم، الدولة التي لم تكن جزءاً من الحرب الباردة، إلا أنها لم تكن حليفة الاتحاد السوفييتي أيضاً. وعليه، فإن نتائج سقوط الاتحاد السوفييتي عليها تشبه، جزئياً، نتائج الحرب العالمية الأولى على إيطاليا، من حيث أن عدم استقرار العالم، بعد تشكل عصبة الأمم، سمح لإيطاليا بتكوين قوتها التي تحالفت مع القوة الألمانية في الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن هذا الصعود الروسي الإيراني، اليوم، يشبه، بطريقةٍ أو بأخرى، الصعود النازي الفاشي بعد الحرب العالمية الأولى، كل لاعتباراته الناشئة من داخله، فروسيا تريد موقعها الذي كان أيام الاتحاد السوفييتي، وإيران تطمح إلى استعادة دورها الامبراطوري.
من هنا، نفهم أن الفاشيّات، في أحد أسباب نشوئها، تعود إلى معاندة الواقع وقوة الأيديولوجيا الماضوية والضدية التي تتوهم قدرتها على القيام بأي شيء، فتكبر حتى تنكسر وتقنع بهزيمتها. وكما كان الصعود النازي الفاشي محرّضاً في تصاعد الفاشيات الغربية في عدد من الدول، فإن البوتينية اليوم تكسب مزيداً من الأنصار، ويحرّض خطابها على تصاعد الفاشيات واليمين المتطرّف في أكثر من مكان في العالم، من دون أن يكون السبب في نشوئها، فهو المحرّض أو الشرارة التي ساعدت ما نشأ واعتمل في القاع، على مدى عقود، إلى الخروج إلى السطح، وليس من باب الدعابة أن لقب “بوعلي بوتين” الذي يطلقه اليوم أنصار بوتين السوريون سبق وأن أطلقه العرب على “بوعلي هتلر”، وأن القارّة العجوز منقسمةٌ اليوم إزاء التعامل مع بوتين وقضايا عديدة، كما انقسمت سابقاً إزاء التعامل مع النازية في بدايات صعودها، وما تهديد بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي وأزمة اليونان ودول الجنوب الأوروبي المزمنة وصعود اليمين وزيادة الدعوة إلى الانغلاق الأوروبي بوجه “أسلمة الغرب” واللاجئين إلا غيض من فيض!
وإذا كان زمن ما بعد الحرب العالمية الأولى هو زمن نهاية الإمبراطوريات، فإن زمن ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو إعلان نهاية اليوتوبيا الاشتراكية، فكما تفكّكت كل الإمبراطوريات تدريجياً لصالح نظام الدولة الذي تقدّم تدريجياً، فإن أغلب الدول “الاشتراكية” تفكّكت، أو في طريقها إلى التفكك لصالح “الليبرالية الديمقراطية” التي تتقدّم، مع ملاحظة أن المنهزمين الكبار يجنحون نحو الفاشية، في حين أن المنتصرين يجنحون نحو تأسيس الشكل الجديد للدولة، بأيديولوجية جديدة أكثر عصرية، في حين أن المهزوم يتعلق بالماضي التليد لتتشكل الفاشية.
وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت بانتصار الحلفاء الذين بدأوا يتقدّمون في العالم، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، فإن انهيار الاتحاد السوفييتي سمح بتقدّم أميركا وأوروبا في محاولةٍ لتقاسم العالم، مع تطويع المنظمة الدولية لحسابهما من حروبٍ خارج الشرعية الدولية، إلا أن الزمن اللاحق أدّى إلى أن تعيش بريطانيا العظمى وفرنسا خريفهما، جرّاء هذا التوسع الذي انتهى عند الحرب العالمية الثانية، مترافقاً مع هزيمة الفاشية والنازية، وهو أتاح لاحقاً لقوى جديدة، بعيدة نسبيا عن الصراع بين القوى المتصارعة، الدخول إلى مسرح الأحداث، كالاتحاد السوفييتي وأميركا، لتولد “الأمم المتحدة” بديلاً عن “عصبة الأمم”، وتعبيراً عن شكل النظام العالمي الجديد بقطبيه الروسي/ الأميركي. اليوم نشهد انسحاب أميركا تدريجياً من الشرق الأوسط، لصالح تقدم الإيراني والروسي، إلا أنه سيكون تقدماً إلى حين تقدّم القوى الجديدة التي لم تنخرط بهذا الصراع، وقد تكون الصين أو غيرها من القوى الصاعدة، مع ملاحظة أن “الأمم المتحدة” نفسها تتعرّض لانتقاداتٍ شديدةٍ ودعوات إلى إصلاحها، وهو ما يتشابه مع وضع “عصبة الأمم” سابقاً.
الخارج يحسم الداخل
ولكن، إذا كان الواقع الدولي، آنذاك، يشبه الواقع الدولي اليوم، فماذا عن سورية، وكيف ينعكس ذلك على ما يحدث اليوم فيها؟ وما قد يحدث لاحقاً؟
الوضع السوري اليوم شبيه، إلى حدٍّ ما، بما كانت تعيشه سورية بعد الثورة السورية الكبرى (1925) ضد الفرنسيين، فالثورة التي رفعت شعارات “الحرية والاستقلال” من الفرنسي، والتي كانت بدأت بحادثة عرضية (القبض على أدهم خنجر وهو بضيافة سلطان باشا الأطرش، ما يشبه شرارة أطفال درعا) سرعان ما وجدت نفسها أمام واقعٍ طائفيٍّ وأمنيٍّ وعسكريٍّ معقد، استثمره الفرنسيون (النظام الأمني العسكري السوري ما زال يعود في جذوره إلى ذاك النظام الذي أرساه الفرنسيون، خصوصاً في مجال الطائفية) الذين عملوا كل ما يمكن فعله، لإبقاء السنة بعيدين عن مركز الفعل، باعتبار أنهم حملة المشروع العروبي (سواءً بشكله التقليدي الذي جاء به الملك فيصل أو القومي الراديكالي لاحقا)، حيث عمد الفرنسيون إلى تقديم أنفسهم حماةً للأقليات.
سرعان ما وجدت ثورة 1925 نفسها أمام لعبة القوى الدولية والإقليمية التي التفت عليها، وسلمت سورية لفرنسا، وهو ما يشبه وضع الثورة السورية، اليوم، مع حلفائها قبل خصومها، حيث يبدو التسليم بالوصاية الروسية على سورية شبه بديهي، ما يضعنا أمام انتدابٍ روسيٍّ يشبه الانتداب الفرنسي سابقاً، إذ لا أحد يناقش مكانة روسيا في سورية اليوم، بقدر ما يجري النقاش حول كيفية “إدارتها” الملف السوري، وهل توافق على رحيل بشار الأسد في نهاية العملية أو لا؟ فالدور الروسي مسلّمٌ به، وهو ما يتعزّز عملياً من القواعد التي تنشئها روسيا، ومن الرؤية الاستراتيجية التي تحكم العقل الروسي على المستوى الدولي ككل، فسورية ليست أكثر من مربع في رقعة الشطرنج الروسية، كما كانت في الرقعة الفرنسية.
إذا كان الانتداب الفرنسي قسّم سورية إلى دويلات طائفية (وهو أمر تم عمليا بموافقة قوى كثيرة من المجتمع السوري وجدت لها مصلحةً فيه)، فإنه لم يذهب إلى حد تقسيمها، إذ كانت الدويلات مربوطةً بالمفوّض السامي، ما يجعلها تتبع رئيساً مركزياً لها، وكانت، في فتراتٍ متقطعةٍ، تخضع لاتحادٍ يجمعها لا ينفك يتضعضع، تبعاً لموازين القوى وغياب رؤية استراتيجية فرنسية آنذاك، لما يجب أن تكون عليه سورية، فإن روسيا تجد نفسها اليوم أمام واقعٍ سوريٍّ مقسم عملياً على الأرض، ولو بشكلٍ غير معلن، فهناك المناطق التي يسيطر عليها الأكراد (دولة كردية)، وسورية المفيدة (الساحل، حلب، دمشق، حماة، حمص) مع ملاحظة أن حلب ساحةُ تجاذبات، في حين تبدو كلٌّ من السويداء ودرعا (وحلب أيضاً) منعزلتين على المستوى الاجتماعي، وإنْ كانتا لا تزالان ترتبطان بالدولة السورية رسمياً.
إذا كان الواقع الدولي الإقليمي الذي منح سورية للفرنسيين ساعد الفرنسيين، آنذاك، على وأد الثورة والبقاء في سورية، حتى لحظة رحيلهم عنها، فإن واقع الثورة اليوم يواجه أمراً مشابهاً من حيث التسليم لموسكو بالساحة السورية، إضافة إلى أن عوامل داخلية كانت مساعدةً للفرنسيين، بدءاً من القوى المحلية المساندة على المستوى العسكري (جيش الشرق وبعض القوى الطائفية والعشائرية) والاجتماعي/ الأقليات (من دون أن يعني أنها كانت كلها في صف الفرنسي، فهي شهدت تمايزاتٍ كبرى في صفوفها بين مقاومة المنتدب والبقاء في صفه)، وهو ما يشبه اليوم قوى سورية الديمقراطية والجيش السوري وقوات حزب الله والمليشيات الإيرانية التي تقاتل تحت حماية الطائرات الروسية، في حين بات واضحاً أن ثمّة قوى اجتماعية ترحب بالوجود الروسي في سورية، وترفع صور بوتين في شوراعها، من دون أن ننسى وضع المعارضة السورية التي لم تتمكّن من تمثيل الثورة في جسم سياسي واحد لمواجهة الفرنسيين، وانقسمت بين تيارين: الاستقلاليون الذين التفوا حول شكري القوتلي، والشعبيون الذين التفوا حول عبد الرحمن الشهبندر، وقد وصل الخلاف بينهما إلى تخوين بعضهما والاتهام بالعمالة والفساد والاستحواذ على أموال الثورة، ناهيك عن تمزّقهم بين المحاور الإقليمية (السعودية، بغداد، الأردن، العراق)، والأيديولوجية (القومية السورية، القومية العربية، وحدة سورية تحت التاج الهاشمي..) والدستورية (ملكية، جمهورية)، وهو ما يشبه وضع القوى السورية المعارضة اليوم، الموزّعة بين ولاءاتٍ إقليميةٍ متعدّدة (الرياض، أنقرة، الدوحة، روسيا..)، وأيديولوجية ودستورية..
بين المحلي والدولي
تقول قراءة التاريخ إنه لا يمكن للمحلي أن ينتصر، مهما بلغت قوته، إنْ لم تكن الظروف الدولية مهيأة، ففي ظل ميزان القوى الذي يميل إلى الدولي، تبقى العناصر المحلية، مهما بلغت عدالة قضيتها، عاجزةً عن الحسم، وهو ما حكم المعادلة السورية في ظل الانتداب الفرنسي الذي ترك له الوقت الكافي ليئد الثورة آنذاك، ويعيد ترتيب سورية كما يريد، وهو ما يبدو أنه، بطريقةٍ أو بأخرى، يحصل اليوم، علماً أن هذا لا يعني، ولا بأي شكل، بقاء الحال على ما هو عليه، فكما أن سورية قبل الثورة السورية الكبرى (1925) لا تشبه سورية بعدها، فإن سورية الأسد لن تعود أبداً، لكن هذا رهين مسار طويل من الانتقال من ساحة العسكرة إلى ساحة السياسة، ومن ساحة الدكتاتورية إلى ساحةٍ غير محدّدة المعالم بعد، فكما كانت فرنسا مضطرّةً لإجراء تحولاتٍ شكليةٍ في بنية الحكم السوري، من حيث إجراء انتخابات (ستعلقها حين تريد لتعود عنها تحت ضغط الشارع) وتعيين رئيس جمهورية ورئيس حكومة، ما يفتح مسارات الفعل السياسي في الداخل الذي راكم قواه وخبراته، فتشكلت الكتلة الوطنية التي قادت سورية نحو توقيع اتفاقية 1936، وعملت على توحيد سورية بشكلها الحالي، بعيداً عن الدويلات الطائفية، بعد أن تمكّنت القوى السياسية الوطنية من الاتفاق على برنامج عملٍ واحدٍ، بعد طول تعثر، فتقدّم المشروع الوطني السوري على حساب المشروع الطائفي التقسيمي، إلى أن خرج الفرنسيون من سورية 1946 بسبب نتائج الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن هزيمة فرنسا دولياً أسّست لنجاح الفعل المحلي السوري، آنذاك، عبر مسار طويل من النضال، ليتضافر العامل الداخلي مع الخارجي، ويحصل السوريون على استقلالهم.
ستجد روسيا نفسها أمام واقعٍ شبيهٍ بما جرى في التاريخ السوري، فهي مضطرّة، بشكل أو بآخر، لإحداث تغيراتٍ في بنية النظام السوري، وهي التغيّرات التي ستسمح بإعادة السياسة إلى الداخل السوري، ولو بطريقة شكلية في البداية، بما يسمح بإعادة التراكم الذي سينتظر ولادة القوى السياسية الوطنية التي ستعمل على توحيد سورية، ولملمة أجزائها من جديد، لتحقيق الاستقلال الثاني، وهذا رهينٌ بهزيمة الفاشيتين الإيرانية والروسية على المسرح الدولي. وبانتظار أن يرتكب بوتين “خطأه القاتل”، في العالم على سورية أن تنتظر زمناً صعباً، نأمل ألا يطول.
العربي الجديد – محمد ديبو