الشعب .. وإن أطال السكون
سلامة كيلة ـ العربي الجديد: في كل لحظة يُحدِث الشعب مفاجأة، فيقف كل المشتغلين في السياسة مربكين، ومصدومين بما حدث. الثورة كانت أول حدثٍ أوجد صدمة كبيرة لدى هؤلاء، الذين كانوا يعتقدون أنهم أبطال الصراع ضد النظم، وأن إرادتهم هي التي ستسقطها، أو على الأقل تدفعها إلى أن تكون ديمقراطية، حيث أن الشعب كمٌّ مهمل، لا حول له ولا قوة، يعيش مخدراً على خطاب السلطة، ولا يفهم معنى الحرية أو يدعم من يقاتل من أجلها.
في لحظة أخرى، عاد هؤلاء ليكرروا الثقة بأن الشعب خانع، وأن الذين تحركوا ليصنعوا الثورة هم الفئات الوسطى. وليعودوا إلى خطابهم ذاته، الخطاب من أجل الديمقراطية، وينخرطوا في “العملية السياسية” التي توصل إلى ذلك. هكذا، تبقى النظرة ذاتها: الشعب كمٌّ لا معنى له، وحين يثور ينظر بنظرة استغلال إلى حراكه، من أجل تكريس “الأوهام”، التي تسكن “عقل” النخب والساسة، أي الديمقراطية.
لا شك في أن الشعب هو، بمعنى ما، كمٌّ، حيث يميل إلى السكينة، ويهرب من السياسة، وخصوصاً من الصدام مع السلطة. يريد أن يعيش “حياته” التي تؤسس لمنظومة علاقات “اجتماعية”، وأشكال من الترفيه البسيط، والأمل في ارتقاء الأبناء إلى وضعية أفضل. هنا الشأن الخاص هو المحدِّدُ لطبيعة الحياة، وتبرز العلاقة بالدولة ضرورة في حدود ذلك، أو حين تتعدى السلطة حدود “الحياد” هذا. وكل الوعي الاجتماعي يتمحور حول ذلك كذلك، مع إرثٍ من الخوف من الدولة، وهربٍ من الاحتكاك بها، وتلمس عبء العلاقة الضرورية معها. أساس هذه “الحياة” هو المقدرة على العيش، أي التحصُّل على مدخولٍ يسمح بالعيش، حتى ضمن الحدود الدنيا. فهنا تكمن استمرارية الحياة، وديمومة العيش. وفي إطار ذلك، تواجه المشكلات الحياتية في حدودها البسيطة، أو بغض النظر، أو حتى بالتكيـُّف معها.
هذا توصيف لواقع الشعب، يعبّر عن وضعها، وهو الوضع الذي يدفع النخب والساسة إلى النظر السلبي إليه، والاعتقاد بأنه لا وجود له، أي كمٌّ مهمل لا تأثير له. ويزداد النظر السلبي حين تتعرض النخب لعنف السلطة، من دون أن تجد مساعداً لها، على العكس تلمس برود الشعب ولا مبالاته. لهذا، لا يعود من إمكانية لفهم واقع الشعب، وظروفه، واحتقانه، وفي العادة، تهمل دراسة ذلك كله، حيث تصبح الديمقراطية كل الزاد الفكري لتلك النخب، وهؤلاء الساسة، فما يحتاجونه هو القدرة على الكلام.
لكن هذا الشعب الساكت الساكن لا يبقى كذلك، وإنْ أطال السكوت والسكون. ومحركه هو اختلال الواقع الذي وصّفناه قبلاً، حيث تختلّ المقدرة على العيش، وتصبح إمكانية الروتينية التي تحكم حياته مهددة. حينها، تحدث الثورات، حيث ينقلب السكون إلى فعل هائل، والسكوت إلى ضجيج مهدِّد. في هذه اللحظة، يتألق “الحس السليم” لديه، فيعرف عدوه، ويعرف أن التغيير يجب أن يحصل. وإذا كان من الممكن أن ينخدع، فللحظاتٍ سرعان ما تنتهي، بعد أن يلمس أن من ادعى مساعدته لم يحقق شيئاً. فقد أصبح يحسب الزمن بالدقائق، وليس بالأشهر والسنوات، وأصبح يثور من أجل أن يسقط النظام، ويأتي بمن يحقق له مطالبه مباشرةً، من دون تلكؤ. وخلال الصراع، يمتلك الصورة التي تحكم المشهد، فيستطيع أن ينتقل من التجريب إلى وعي ما يريد، وكيف يتحقق ذلك.
هنا يكون الشعب الممسك بمنحى الصراع، وهو المحدِّد لوجهته، والمقرر للنهاية التي تحقق مطالبه. ولا شك في أنه يكتسب الخبرة بسرعة فائقة، ويتقدم من دون تردد، ويعالج المشكلات، التي ظهرت، وهو يخوض الصراع، لكي تصبح الثورة مكتملة، وتنتصر