المشروع الإيراني الرامي إلى التحكّم بمقدرات المنطقة وتحديد مساراتها مشروع قديم، جديد. إلا أنه اكتسب بعد الإنقلاب الخميني بعداً جديداً، تجسّد في تنوّع أدواته، واتساع حدود تطلعاته.
ففي مرحلة الشاه على سبيل المثال، كانت دائرة الاهتمام الإيراني تشمل منطقة الخليج حيث النفط الواعد، والعراق الجار المهدّد في ذلك الحين. وكان النظام الإيراني حينها يحاول إبهار محيطه بالنمط الغربي للحياة، الذي لم ينسجم تماماً مع الخصوصية الإيرانية، على رغم كل أساليب البطش والفرض التي اعتمدتها أجهزة الشاه القمعية.
أما في المرحلة الخمينية فقد أخذت الأمور منحى آخر، وذلك عبر القطع مع المرحلة السالفة بأسلوب دموي غير مسبوق، ورفع شعار الثورة الإسلامية، وتبني القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى اختطاف المقاومة اللبنانية.
واللافت في الأمر أن السلطات الإيرانية اعتمدت في هذه المرحلة نهج استخدام الورقة المذهبية لتغريب الشيعة في دولة المنطقة عن مجتمعاتهم. وقد بدأت الجهود تلك بنشاطات ثقافية إعلامية، حاولت إظهار ما يحدث في إيران وكأنه صحوة إسلامية، وقد أثار هذا الأمر في بداية الأمر اهتمام وأحلام أوساط مسلمة واسعة، بصرف النظر عن أي اصطفاف مذهبي. ولكن مع الوقت، تبين للجميع أن المشروع الإيراني أكبر من أن يتحقق عبر العمل الثقافي الدعووي الموجه. فالتحوّلات المطلوبة إيرانياً على صعيد المنطقة كانت تستوجب وجود قوات محلية مسلحة، تتستّر خلف شعارات تدغدغ مشاعر البيئة الشعبية الحاضنة لها، وتصادر على احتمالية بروز أية قوة منافسة، بل تعمل على تغييبها. وكانت هذه القوات في نهاية المطاف أذرعاً قتالية، تحارب بالنيابة أو الوكالة لمصلحة المشروع الإيراني الشامل في المنطقة.
وكان التركيز منذ أوائل الثمانينات على حزب الله اللبناني، وعلى حزب العمال الكردستاني، كما تم تبنّي مشروع حماس، لتبدو اللوحة وكأنها مشاريع متنوعة متبانية على صعيد الأيديولوجيا المعلنة، والأهداف المتوخّاة. ولكن الموضوع في جوهره كان موضوع توزيع الأداور، وتقاسم المهمات. ومن الواضح أن سورية كانت الحجر الأساس في الاستراتيجية الإيرانية التوسعية. وكانت التشكيلات العسكرية المأتي على ذكرها هي الأدوات المنغّصة للقوى الأخرى المنافسة التي تتعارض مصالحها وتوجهاتها مع أهداف المشروع الإيراني. فحزب الله تم تكليفه بالحد من النفوذ السعودي في لبنان، كما استخدم من أجل التغلغل ضمن المجتمعات الخليجية عبر العمالة اللبنانية تحسباً لليوم الموعود. كما تولّى حزب العمال الكردستاني مهمة إرباك تركيا، والعمل في الوقت ذاته على التحكّم بالورقة الكردية في كل من سورية وتركيا وإيران، والسعي لإحداث خلخلة في كردستان العراق، مستفيداً من وضعية التنافس والتوجّس بين الأطراف السياسية الأساسية هناك، بخاصة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني.
أما حركة حماس، فقد أنيطت بها مهمة إشغال مصر، بالإضافة إلى اتخاذها ورقة دعائية تضليلية من جهة تبني القضية الفلسطينية، والتمويه على التوجهات المذهبية للمشروع السياسي الإيراني.
ولم تقتصر الجهود الإيرانية على تعبئة هذه القوى وحدها، بل شملت قوى أخرى لبنانية وفلسطينية وسورية وعراقية، علمانية ودينية، وكان التنسيق في هذا السياق مع النظام السوري على أكمل وجه، وفي أعلى درجاته.
وقد أدت التحوّلات الكبرى التي شهدها الإقليم إلى تمهيد الأرضية أمام المشروع الإيراني بصورة أسرع مما كان متوقعاً؛ ومن أهم هذه التحوّلات الغزو العراقي للكويت، وحرب الخليج الأولى، ومن ثم الدخول الأميركي إلى أفغانستان والعراق، لإسقاط نظام طالبان وصدام حسين، الأمر الذي استفادت منه إيران استراتيجياً، بخاصة في العراق، وتمكّنت من تحقيق التكامل بين عناصر مشروعها بدءاً من العراق ووصولاً إلى لبنان وسورية. ولم تكتف بذلك فحسب، بل امتدت إلى اليمن، وسعت إلى نقل المعركة إلى داخل المجتمعات الخليجية.
هكذا إلى أن وصلنا إلى هذه الوضعية البالغة الحساسية التي تهدد لا بانهيار دول الإقليم فحسب، بل بانهيار النظام الإقليمي كله، الأمر الذي يطرح تساؤلات جادة حول المستقبل الذي ينتظر المنطقة كلها.
من الواضح أن هناك تجاهلاً لافتاً من جانب أميركا لهواجس ومطالب حلفائها التقليديين في المنطقة، بخاصة السعودية وتركيا، الأمر الذي يضعنا أمام تساؤل محوري: هل المطلوب هو إضعاف – إن لم نقل إنهاك – القوى الإقليمية الكبرى، ما عدا إيران؟
ما تشهده المنطقة من صدامات وتفاعلات يبيّن إلى حد كبير أن التوجه الأميركي ومعه الروسي هو في هذا المنحى، وذلك مصادرة على احتمالية صعوبة التحكّم بنزوع هذه القوى للتوسع الاقتصادي في ميادين ما بعد إقليمية، الأمر الذي قد تترتب عليه منافسات، وربما صراعات تكون أكثر كلفة مما هو حاصل الآن.
ومن هنا كان التوجه نحو اعتماد سياسة الاستنزاف، وغض النظر عن تدخلات وتجاوزات الميليشيات المحلية الموجهة إيرانياً بأسمائها وتمظهراتها المختلفة، وذلك لتكون الحرب في المنطقة حرباً مضمرة، لا تصل الأمور فيها إلى حدّ المواجهة الصريحة بين القوى الإقليمية المتنافسة. ويبدو أن التباين المذهبي الذي تعيشه المنطقة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام اعتمد ليكون وقوداً لهذا الصراع، وذلك تحاشياً لأي تدخل خارجي قد يوحّد المنطقة، عوضاً عن تفتيتها.
أما القوة الإيرانية التي من الواضح أنها منتشية اليوم في سائر الساحات فهي الأخرى لها مفاتيحها التي سيتم التعامل معها في الوقت المناسب، لتكتمل عملية إعادة ترتيب المعادلات الإقليمية وتفاعلاتها الدولية، ولتصبح الأمور قابلة للضبط في مرحلة ما بعد سايكس – بيكو، وهي الاتفاقية التي كانت تتناسب مع مصالح القوى المتحكّمة في القارة العجوز، في حين أن المرحلة الجديدة تتميّز بإمكانية التفاهم بين الخصمين اللدودين الأميركي والروسي على قاعدة المصالح المتغيّرة، التي كانت دائماً هي الموجّه للفعل السياسي على مستوى الجماعات الصغيرة والكبرى، وحتى على مستوى الأفراد.
الشعب السوري يدفع اليوم ضريبة هذه الهزات التكتونية التي تتقاطع مراكز دوائره على أرضه. ومن هنا يصبح السؤال عن مصير سورية الجغرافي والكيان السياسي مرتبطًا إلى حدٍ وثيق بمآلات الصراع الدولي- الإقليمي الملتهب حالياً على الأرض السورية. وهو صراع يستخدم السوريين معارضة وموالاة – كما يستخدم الميليشيات الإقليمية – وقوداً رخيصاً لإخراج خرائط جديدة إلى حيّز الوجود، خرائط كانت ستكون أكثر كلفة في حالة اعتماد الجيوش الأجنبية.
الحياة