ترى في عروض تأجير البيوت المنتشرة على مجموعات الفيسبوك، وفي المكاتب المخصصة لتأجيرها وبيعها، ثمن إيجار البيت في الشهر الواحد 1000، أو ألفي ليرة تركية، وربما أكثر، ويطلب صاحب المنزل التركي سلفة لـ 6 أشهر، أو سنة كشرط لقبول تأجير منزله، في المقابل لا يتعدى راتب اللاجئ السوري وسطيا الـ 2000 في مدينة كالريحانية في هاتاي، ربما أقل، وربما أكثر بقليل، كون المدينة تفتقر للمعامل والمصانع التي تتطلب أيدي عاملة.
ماذا يفعل السوري اللاجئ؟ ليس لديه خيار إلا البحث عن منزل مهترئ قديم في منطقة نائية بعيدة عن مركز المدينة كـ ياشلوا أو حارة الطحان، أو التوكي كما تسمى، أو حتى منطقة مسجد فاطمة، يُسكن فيه عائلته إن لم يكن لديه مصدر دخل خارجي أو عمل مع منظمة براتب جيد.
بل يتعدى الأمر قصصا أخرى ربما هي أقسى من السابقة. فقلما تجد لاجئاً سوريا في تركيا، قد أمضى سنوات عدة فيها، إلا وقد انسدل عليه وعلى أسرته تعب تغيير المنزل، وغزته مخاوف العثور على بيت جديد مناسب، يرهقه هاجس تكاليف نقل الأثاث، والمال الذي سيدفعه للسمسار” الجشع في كثير من الأحيان” ، الذي يطلب مبلغ إجار شهر كامل لجيبه، ناهيك عن مبلغ التأمين الذي يطلبه صاحب المنزل التركي، وغالبا ما يصبح تحصيل التأمين كالسراب، إذا خرج السوري اللاجئ من ذاك البيت، ليجهز اللاجئ جميع هذه المصاريف للمنزل الجديد!
لدي صديق من ريف إدلب متزوج منذ 5 أشهر في مدينة الريحانية ويعمل براتب لا يزيد على 2500 ليرة، ومع فواتير السكن والإيجار ومتطلبات الطعام والشراب لا أكثر، قلما يستطيع ادخار 100 ليرة، مع ما تعيشه البلد من انخفاض في سعر الليرة أمام الدولار، الذي ترمي خيوط أزمتها وتخنق اللاجئين السوريين. وكأن لعنة بشار تلاحق السوري أينما ذهب وحل!
همام (اسم مستعار) شاب ثلاثيني من جبل الزاوية، تعرفت عليه في أحد بيوت السكن الشبابي منذ سنة تقريبا، دعاني لتناول العشاء معه، وحاول ” فضفضة” حزنه قليلا لي، رسمت معاناة اللجوء، مع أثقالها من بحث عن عمل وسكن، وبعدٍ عن كنف الأهل وحنانهم واهتمامهم به، خطوطا على وجهه، وتقاسيم ألم مبعثر بين عينيه، وإيماءات رأسه المنحدرة للأسفل كأنه يريد لهذه الأحزان أن تنزل من عليه، ليغسلها بأمل جديد، ويسمع مني نصائح تواسيه، قد تشرق في قلبه نبضا جديدا، وتحدّياً قد يكفيه لبعض الأشهر قبل أن تهزمه الأزمات لاحقا. فلولا الأمل لمات اللاجئون السوريين كمدا وهما مما يعانونه أينما توجهوا وحلوا.
شاء القدر أن ألتقي همام مجددا بعد 5 أشهر، كجار لي في الدور الأول من العمارة التي يملكها تركي مهاجر إلى ألمانيا، يبحث عن حياة أفضل وأكمل من بلده تركيا، فكثير من الأتراك هاجروا لألمانيا خلال العقد الماضي. وكلف ابن أخته بتسيير أمور العمارة وتحصيل الإيجار من السوريين فيها.
مضى تقريبا 5 أشهر وسعيد (اسم مستعار للرجل التركي الذي يشرف على العمارة) يهدد برفع الإيجار للدور برفق مع ابتسامة تخفي وراءها جدية في قراره، كنا نلاطفه ونمازحه بترك العمارة إن فعل وأيضا بابتسامات، ولكن في قرارة نفسي، كنت متأكد أنه سيفعلها، يوما ما.
اتصل سعيد (التركي) علي مغرب الأول من آب الحالي يريد التحدث إلي قليلا. لم تراودني يومها فكرة زيادة ثمن الإيجار أو أنه يريد المنزل لعائلة تدفع له مبلغا أعلى، كما أنه اتصل على همام جاري، الذي رأيته أيضا داخلا متوجسا لمحل سعيد، بادية عليه أمارات الغضب والقلق، خصوصا أن همام كان رجلا مزاجيا حادا، لم يكن يحب سعيد ولا ارتاح له كما أخبرني، لذا كان يرسل له مبلغ الإيجار عبر بطاقة بنكية” حتى لا شوفو ولا أسمع صوتو” كما قال لي مرةً.
طلب سعيد مني ومن همام الدور كله، بيتي وبيت همام، وادعى أن ابن خالته في ألمانيا يريد تأجيره لعائلة سورية مسكينة الآن هي في الشارع، لم أصدق وهمام هذه الرواية التراجيدية، لكننا الآن أمام واقع يحمل من جديد رحلة البحث عن بيت جديد مع تكاليف أبي محمد السمسار ومبلغ التأمين، فضلا عن منطقة مناسبة قريبة لمركز المدينة، وسط الغلاء المتزايد في مبالغ إيجارات البيوت.
غضب همام من سعيد كان مختلفا عن انزعاجي منه، لأن همام دفع 500 دولار تقريبا تكاليف إصلاحات للبيت الذي سيُدخل إليه عروسه ويتزوج فيه. فلا صنابير مياه موجودة في البيت، ولا جدران وأسقف تصلح لبيت زوجي جديد، فضلا عن الحمام
وأشياء أخرى، إلا أن الإيجار برأي همام كان مناسبا، فهو يدفع
700 ليرة لبيت مؤلف من غرفة نوم وأخرى للضيوف، إضافة للمطبخ والحمام. وهذا أمر نادر جدا أن تحصل عليه في منطقة قريبة من الشارع الرئيسي للمدينة.
رفض سعيد أن يرجع ليرة واحدة لهمام دفعها أثناء إصلاح بيته، ولم يكن هذا غريبا أو غير متوقع منه، لأننا وبعد أن سكنا عنده
أخبرنا صاحب لهمام أن سعيد رجل يحب المال جدا، ولا أحد يسكن عنده مزيدا على 6 أشهر إلا ويخرجه من البيت، ليسكن عائلة أخرى تدفع له مبلغا أعلى، ولا يطلب سعيد أجرة زائدة
من السابقة.
تشكل مسألة السكن هاجسا كبيرا لدى اللاجئين السوريين في تركيا، فتأسر تفكيرهم بقفص من الهم والخوف من بذل المال المتكرر وعناء البحث عن منزل جديد للاستقرار المؤقت الذي من الممكن أن ينقلب لتشرد جديد بكلمة” بدي البيت” من المالك .
قصة خبرية / محمد إسماعيل
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع