الواقع الكارثي الذي خلّفته سنوات الاقتتال السوري ترك أثره في صلب الحياة اليومية وعلى كافة المستويات، فالأزمة السورية باتت تشكل قوتا يوميا مرّا يتجرعه المواطن على أمل الوصول إلى حلول تغلق الأبواب المفتوحة نحو المجهول.
رغم استبعاد إمكانية الحسم العسكري في الدوائر السياسية الدولية، وتنامي البحث عن حلول سياسية للوصول إلى تسوية دولية للأزمة السورية يمكنها تهدئة الوضع السوري وتسكين مواطن الخلل فيه، بعيدا عن التدخلات الخارجية، فإن ما قدمه الواقع السوري مع تصاعد ثقافة الهويات وصراعها الذي أدى إلى العديد من التوترات الوجودية والسياسية، وفقدان السيطرة على تداعياتها من قوى وتيارات ناشئة في البنى الثقافية السورية، ومن حركات سياسية دينية متطرفة، لها حواضنها الثقافية ورواسبها الفكرية، دفعت نحو إنتاج المزيد من العنف السياسي والاجتماعي والطائفي، فضلا عن تحولها إلى أطر لجماعات تقوم ثقافتها على جملة تصورات وحسابات تمثل المصالح والأيديولوجيات واتخاذ التحالفات في سبيل إنقاذ وجودها أو استمراره.
هذا النمط من التحالفات والمواجهات قدم آلياته في تأجيج الحروب الأهلية، وثبّت استراتيجية التدمير التي شكّلت جزءا من منظومة العمل لكافة الفصائل المتقاتلة ليترسخ تاريخ متكرر من الأحداث العنيفة تمّ ربطها بالمسار السياسي السوري وبالشرط الدولي الذي تولى مهمة تأهيل الحلول لهذا الواقع المتلعثم للوصول إلى نتائج موائمة لجميع الأطراف، وهذا يشكل صعوبة بالغة أو استعصاء فعليا في إيجاد الحلول المرضية.
الضرورة الملحّة في إيقاف شلالات الدم السوري والدفاع عن المدنيين وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإيجاد حلول سياسية برحيل الأسد أو بوجوده كأمر واقع، رغم انعدام قدرة النظام السوري على ممارسة الحكم، إلا أنه استطاع فرض وجوده كطرف مُتحكم في إدارة الصراع ووقف الأعمال القتالية أو تفجيرها طوال المدة السابقة، لا يمكن التعاطي معها إلا كخطوة أولى باتجاه الحل، فهي لن تقدم نقلة نوعية في طريقة تعاطي الأطراف المتصارعة وتثبيت حالة السلم بينها، أو تقديم صياغة جديدة لنظام سياسي جديد قادر على رأب التصدعات.
إذ أن محاولة الوصول لمثل هذا النظام السياسي ضمن بلد لم تكن اللعبة السياسية فيه متكافئة يوما، يشكل حتى الآن بابا مغلقا، فالميراث السوري الطويل من القمع والتسلط وحجب إمكانية قيام النمط الغني بالحوارات والبدائل وغياب مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وانعدام الأحزاب السياسية القادرة على التغيير، تم تعزيزه مع قسوة الدمار وصعوبة إيجاد القواعد الشعبية الفاعلة، وترك الساحة مفتوحة لقيام تيارات جهادية تبني إماراتها وتزيد الخراب خرابا، فرغم أن بعض الأطراف المعارضة تعتبرها جزءا فاعلا لإسقاط النظام، إلا أن بقاءها سيشكل وصفة مثالية لاستمرار الفوضى والعنف مستقبلا.
الهوّة الكبيرة التي أوجدها الاحتراب السوري بين المعارضة والسلطة لن يتم ردمها ببساطة وبمجرد إعلان اتفاق سياسي على خطوط الإنقاذ العريضة، أو الوقوف معا لمحاربة الفصائل الجهادية، وما تجلّى من خلل أنتجه واقع الصراع على المستويين الأفقي والعمودي بالمجتمع، والوضع الاقتصادي الذي يزداد تدهورا مع طول الأزمة، بالإضافة إلى زيادة النفور (من المعارضة والسلطة معا) لدى القطاع الأكبر من الجماهير التي تبنت الحياد السياسي، بعد أن رأت ما تم تخويفها منه طوال السنوات السابقة ماثلا أمامها وبصورة سافرة، من الشعارات الدينية الطائفية وتفاقم مظاهر التفكك والتقسيم، والولاءات للخارج، واتهامات التخوين لهذه القطاعات الجماهيرية، على اختلاف مشاربها، من قبل الجهات المتصارعة كافة، لن يمهّد بالمستقبل القريب لبناء نظام سياسي قادر على تقديم ضمانات السلم.
استمرار غياب القوى الفاعلة الحيادية لن يقدم إلا تراكما من التمزق المرير، كما أن استمرار الانتظار لما سيفصّله المجتمع الدولي هو حالة من الدوران في حلقة مفرغة لن تنتج سوى المزيد من التطرف والإرهاب، ولا خروج منها إلا بالانفتاح السياسي والفكري، وإيجاد البنى الكفيلة بنجاح هذا السلم والتعايش المجتمعي، فهي وحدها القادرة على إعادة بناء دولة لكل السوريين.
هوازن خداج – العرب