بعد شهرين من اعتقاله على يدِ قوات النظام السوريّ، يأتيها اتّصال لِيُذهب معه جميع ذرّات الأمل المنتظر في أن يُشاركها الزوج الحبيب مراسم ولادة ثمرة حُبّهما الأخيرة..
– ألو: حضرتك زوجة أحمد؟
– نعم.. تفضّل؟
– طالبينك عالقسم لتتعرّفي على جثة زوجك!
مها “اسم مستعار” (ريف حلب، 34عام) كانت مثل كل الفتيات في مقتبلِ العُمر.. يتردد على بابها الخاطبين واحداً تِلو الآخر، فينقبضُ القلب لهذا، وترتجفُ اليدينِ بحضورِ ذاك، وترفضُ آخر لعدم انجذاب القلب إليه..
ليتقّدم لها في عامها السادس والعشرين أحمد “اسم مستعار” (حلب، 35عاماً) ترتاحُ لِوجودهِ، ولكن..
تُخبرها صويحباتها بأنّه ليس “جنتل مان”، أنتِ بتستاهلي واحد أحلى!
فترفضه كغيرهِ.. لتبقى والدةُ أحمد على تواصل مع مها وأهلها..
وما بين الفينةِ والأخرى تتفقدُ أحوالها، لتطمئن بأنّه ما مِن أحد سرقَ الكِنّة اللطيفة من بينِ يديها، والفتاة التي رقّ قلب ابنها أحمد لها من بين جميع من قابلَهُن..
وبعد عام تعودُ والدة أحمد لتطلب مها لابنها، تُفكّر مها.. تُخاطبها والدتها: “لك يا أمّي الشب المنيح ما بيجيك كل يوم، وبعدين خلقه طيّب وحماتك طيبة ليكي ماقطعت التواصل من سنة، الجماعة شارينك يا أمّي”.
يطول التفكير لشهر، لا تستطيع مها أن تُنكر خلاله انجذابها لأحمد، يتزوجان.. وتبقى برفقته سِنين طِوال راضيةً سعيدةً برفقته قبل أن تأخذه منها يد الغدر على حين غفلة..
تُكررُ مها “اسم مستعار” على صويحباتها قولها: أهم شي تتزوجو حدا رايدكم، حدا مقتنع فيكم ورجل طيّب وشهم، ولا تنسوا تختاروا ابن الأصل يلي ما بيهينكم..
وفي عام 2016 بعد أن تم اعتقال الزوج الحنون بشهرٍ واحد انقطعت أخباره، ليأتيها ذاك الاتصال المشؤوم، وتخرجُ مها مع والد زوجها منهارةً تبكي، تستنكر.. تدعو ألا تجد جثّته..
بحرارة الدموع التي تُحاول أن تضبط الموقفِ بحضورها تقول وهي ترتدي عباءتها السوداء: “لا لا ماهو، إن شاء الله مارح نلاقيه بين الجثث يارب، تشهقُ مختنقةً بالكلمات: أحمد وعدني رح يرجع، رح يحضن بنته ويلاعبها بإيديه، أحمد عمره ما كذب علي أو أخلف بوعده..
تستدرك الموقف لتربط على قلب الأم: “يامرة عمّي أحمد مستحيل يتركنا، أحمد حنون بيحبنا كتير.. وهو كتير بار فيكِ معقول يتركك!”.
تمضي برفقةِ والد زوجها، تدخل المشرحة، مكانٌ ممتلئٌ برائحةِ الموت..
أجسادٌ مُعذّبةٌ خاويةٌ.. نحيلةٌ نالت منها سِياط الجلّادِ منالها..
منزوعةُ الأظافر.. مفقوءةُ العينينِ.. آثار صعقاتِ الكهرباء جليّةً عليها..
وسط هذا الصمت الرهيب، يناديها الضابط بصوتٍ مُتهجّم ليقطع شرودها.. “خلصينا.. شو بدك تضلّك واقفة عندك يا حيوانة.. ”
بقلبٍ مُضطرب تتفقد الجثث.. من الصعب التعرّف عليه وسط كل التشويه الذي نال تلك الأجساد!
تنتقل من بينها، وفي كل مرّة تقطع بها الشك باليقين بأنّ هذه الجثة ليست لأحمد، تطمئن.. لعله حيّاً.. خطأ ما.. تشابه أسماء.. أي سبب يُثنيها لتعود أدراجها إلى المنزل برفقهِ والد زوجها..
وسط هذه الخواطر.. تشعر بحرارة في يدها حينما تتلمس بهِ وجه ذاك الجسد الخاوي.. نحيلٌ جداً..
“هذا ليس زوجي ولكنه هو..”
من غير الطبيعي أن يفقد كل ذاك الوزن بشهرين فقط!
ولكن.. لا مفر من الحقيقة.. أحمد بشعرهِ الأسود، ومنكبيه العريضتين والخاويتين إلا من العظم.. وحاجبيه اللذين ما برحت تُشذبهما بيديها الحنونتين في الأيّام الخوالي..
تراودها الخواطر؛ تصرخُ أم تصمت وتبتلع الغصة في الفراغ الذي انتشر بداخلها.. تنادي عمّها (زوج أبيها) أم تتريّث!
تستجمعُ قِواها.. تقول في نفسها: “آخذه جثة، يكون إله قبر أزوره، ولا ننحرم من ريحته طول العمر”
بصوت متقطع تخبرنا: “ما بعرف شو قلت وقتها، بس بتذكر إنه حاولت كون قوية قد ما أقدر عشان عمّي المريض”
تقولُ -بصوتٍ مُعبّق برائحةِ الموت- عمّي: “عظّم الله أجرنا بأحمد..”
كانت مها “اسم مستعار” في هذه الأثناء بشهرها التاسع، تحملُ بآخر العنقود، الوجه المُدلل والذي سيبقى طِوال حياته لا يعرف معنى كلمة “بابا”
يأتيها المخاض، تقول مها: “مابعرف، ماكنت حاسّة بوجع الولادة، كان الوجع بقلبي أكبر بكثير.. حسيت الألم الجسدي دوا، شي بيخفف عن شي، توازن روحي بين الفقد وآلام المخاض.. رجعت للبيت الخاوي من كل شيء إلا الحزن، لساتني مصدومة.. أحمد مو هون، هي المرّة مارح يطعميني كِبدة بإيديه ويجبرني ع العصير الطبيعي يلي بحسه من مراسم ولادتي”
وتُداري الألم بالصبر: تالا “اسم مستعار” (المولودة الجديدة) اجت معها متلازمة داون، وجع فوق وجع، مابعرف كيف داريها، داري ولادي الصغار، أفهمهم إنه بابا ماهون..
كلشي قدرت أتحمله وأدفنه بالفراغ يلي تعمّر جواتي إلا سؤال ولادي الصغار يلي مابيعرفوا شو يعني موت “ماما بابا وين؟”
لِمها آنذاك أربعةُ أطفال مابين (14 عاماً، وتالا حديثة الولادة)
بعد أشهر قليلة من وفاة زوجها وفي عام 2016 ذاته، تأخذ أطفالها إلى اللاذقية لتمكث بالقربِ من أهلها، لِيُساعدوها في حمل المسؤولية وسط ذاك الألم، والِديّ أحمد كبيرين بالعمر، يحملان نفس الهمّ والألم..
تقول سارة “اسم مستعار” (ابنة عمّ مها، 34 عاماً): مها زعلانة بس صابرة، مها حبّته لأحمد كتيييير وطول الخمسة عشر سنة يلي قضوهم سوا عمري ما سمعتها شَكَت منّه، أو إنّه زعَّلها بشي، الشب يلي لما تقدّملها أول مرّة وشافته “ليس على قدر من الجمال”، نسّاها كلشي بمعاملته الطيّبة، بحنيّته، ماعادت تشوف فيه عيب أو خطأ، أحمد كان كلشي بحياتها، ويلي بدي تظهريه لما تكتبي القصة تبيني شقد حسن المعاملة بيترك أثر بقلب الإنسان.. بتعرفي مريم؟ من يوم وفاته لليوم بتحسي بالنسبة إلها كأنه مبارح توفى، مها كانت راضية جداً بتضل تقول المهم البركة، البركة هي الأصل مو الكثرة”.
تعودُ مها “اسم مستعار” مع عائلتها الصغيرة؛ لِتستقر في حلب وذلك في العام المنصرم 2020، ابنها الأكبر والذي بلغ من العمر 19 عاماً يريدُ إكمال دراسته في جامعة حلب بالقربِ من بيت جدّه.
نفهمُ نحنُ النساء معنى الفقد، نشعرُ ببعضنا، ونأسى لألم الآخر..
أُباغت “سارة” بسؤال خلال حِوارنا: بتحسيها ضايعة؟ عم تدوّر ع شي صح؟
فتجيبيني: عم تدوّر عليه..
قصة خبرية / مريم الرحمون
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع