أورينت نت
يمكن القول بكل تأكيد: إن إشكالية الأحزاب السياسية في سوريا هي إحدى تداعيات الإشكالية الأم، والتي تتمحور حول استفراد نظام الأسد في السلطة طيلة ما يزيد على أربعة عقود من الزمن، ولم تكن مصادرة الحياة السياسية في سوريا طيلة هذه الفترة مسألة اعتباطية بل جاءت وفقاً لرؤية تم التخطيط لها، وبدأت الخطوات الإجرائية لهذه الرؤية الاستبدادية تتجلى مع الإعلان عن المادة ( 8 ) من الدستور التي أصبح حزب البعث الحاكم هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وفي خطوة إجرائية أخرى أصدرت السلطات السورية عام 1972 قرارا يقضي بتشكيل الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم عدّة أحزاب سياسية متحالفة مع السلطة!
الجبهة الوطنية التقدمية: الدعاية الرخيصة!
أهم ما يمكن أن يقال عن أحزاب ما يسمى بـ “الجبهة الوطنية التقدمية” يمكن اختزاله بالآتي:
1 – لقد تم إعلان تشكيل هذه الجبهة بقرار سياسي، وليس لوجود هذه الأحزاب أي صفة قانونية، بل يمكن إلغاء وجودها بقرار سياسي أيضاً.
2 – خضوع هذه الأحزاب لمراقبة أمنية شديدة، بل إن العديد من كوادرها الحزبية لا تخفى ارتباطاتهم الأمنية مع فروع وأقسام المخابرات السورية.
3 – عدم وجود أي دور سياسي فاعل لهذه الأحزاب، وإبعادها عن صنع القرار جعلها ملحقة للسلطة ولا تحظى بأي قدرة على المبادرة، بل هي لا تملك الحق بإصدار جريدة أو مطبوعة دون موافقة أمنية.
4 – لقد أدت هذه الأحزاب وظيفة دعائية لنظام الأسد الذي كان يحرص على إيهام الآخرين بأن ثمة أحزاب في سوريا غير حزب البعث.
حيازة السلطة ثم الانفراد بها استوجب من نظام الأسد عدم التفكير بأي مشروع وطني يكون مصدراً من مصادر شرعية السلطة، بل أصبح الحفاظ على السلطة والاستمرار في الحكم هو مشروع النظام، ولامانع في هذه الحال من أن يقوم النظام بالعمل على إيجاد الحوامل السياسية للمشروع السلطوي والتي تمثّلت بخطاب قومي تقليدي يخفي تحته كل سوءات الاستبداد والفساد، علاوةً على أن هذا الخطاب الخادع قد استخدمه نظام الأسد ذريعة لمجمل ممارساته الشنيعة بحق الشعب السوري، حتى بات يُخيل للمواطن السوري أن ما يسمى بالممانعة والمقاومة لا يستقيم مسارها إلا على حساب كرامته وحريته وحقوقه.
ومع استمرار إحكام القبضة الأمنية على مقدّرات المجتمع السياسية والإجتماعية والرغبة المتزايدة لدى النظام في مصادرة أي جهد أو نشاط أو مُنتج اجتماعي لا يخدم السلطة أو يعيد إنتاجها، فقد بات العمل السياسي من خارج مؤسسات السلطة أمرا محظوراً يوجب على صاحبه العقاب والمساءلة.
تداعيات مرحلة الثمانينيات!
لقد تحوّل خوف المواطن من العقاب حيال ممارسته لأي نشاط سياسي إلى خوف من موت محتمل أو تغييب قسري لسنوات بل عقود من الزمن، وذلك بعد المنعطف الحاسم الذي حصل عام 1980 نتيجة المواجهة المسلحة بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام الأسد، ولم يتردّد الديكتاتور حافظ الأسد آنذاك في العمل بكل الوسائل لسحق خصومه، وكان من نتائج تلك المواجهة العديد من المجازر التي ارتكبها النظام في حلب وإدلب وجسر الشغور. ثم تلا ذلك الإجهاز على مدينة حماة في شباط 1982 والتنكيل بأهلها على مدى شهر كامل لم يتوان رجال النظام عن ارتكاب أسوأ أصناف الإجرام وأقذرها.
لم تكن النتائج الأمنية والسياسية لأحداث العنف الدامية سنة 1980 لتطال الإخوان المسلمين وحدهم، بل إن تداعيات تلك المرحلة قد أحاطت بجميع السوريين، ويمكن إيجاز الانعكاسات المباشرة من الناحيتين السياسية والأمنية بما يلي:
1 – ازدياد التغوّل الأمني في أجهزة ومؤسسات الدولة،بل يمكن القول بكل يقين إن بضعة جنرالات أصبحت هي القابضة على عنق السوريين،بتفويض كامل من حافظ الأسد،لأن هؤلاء هم الذبن حافظوا على عرشه من خلال سحقهم وبكل شراسة لأي مظهر من مظاهر المعارضة السورية، ولعلّ من أبرز هؤلاء الجنرالات:
أ – اللواء علي حيدر: قائد الوحدات الخاصة.
ب – رفعت الأسد: قائد سرايا الدفاع .
ج – اللواء شفيق فياض: قائد الفرقة الثالثة.
د – اللواء علي دوبا: رئيس المخابرات العامة.
هـ – هشام بختيار رئيس المخابرات العسكرية.
فإلى هؤلاء يدين نظام الأسد في فترة الثمانينيات في تدشين مرحلة جديدة بدت سوريا من خلالها أكثر إذلالاً وبؤساً.
2 – الانقضاض على المعارضة السياسية بكل أطيافها (الإسلامية واليسارية والقومية) والبطش بكل صوت يتجرأ على نقد السلطة، الأمر الذي جعل السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق تغص بالمعتقلين السياسيين بمختلف توجهاتهم.
3 – كما تم استحداث سجون جديدة نظرا لكثرة أعداد المعتقلين،ومنها سجن تدمر العسكري الذي تم تأهيله في بداية العام 1980، وفي شهر حزيران من العام ذاته أقدم رفعت الأسد على ارتكاب مجزرة في هذا السجن أودت بحياة ( 800 ) معتقل من الإسلاميين،وذلك على إثر محاولة فاشلة لاغتيال أخيه حافظ الأسد، كما تم في العام ذاته إصدار القانون ( 49 ) الذي بتضمن عقوبة الإعدام لكل من يثبت انتماؤه لتنظيم الإخوان المسلمين،لقد مهّد هذا القانون لسلسلة طويلة من الإعدامات والتصفيات الجسدية استمرت من العام 1980 وحتى منتصف التسعينيات، وذلك من خلال محاكمات ميدانية صورية لا تحظى بأي حدّ من الأعراف القانونية، وكانت تتم هذه المحاكمات التي تتبعها حالات الإعدام بإشراف رئيس المحكمة الميدانية في سوريا (سليمان الخطيب).
4 – لم بقتصر بطش النظام على القوى السياسية التي حملت السلاح في مواجهة السلطة، بل استهدف أيضاً الأحزاب المعارضة التي تتحفظ على حمل السلاح،وتدعو إلى النهج السلمي في معارضة السلطة.وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن معظم معتقلي الرأي السلميين في سوريا ممن تقدموا لمحاكم استثنائية بعد عام 1980 قد قضوا في السجن مدّة تتراوح من( 8 سنوات إلى 15 سنة) ومنهم من قضى (16سنة، ياسين الحاج صالح ،حزب الشعب الديمقراطي، المكتب السياسي سابقاً)(20 سنة ،عبد العزيز الخير من حزب العمل الشيوعي) ومنهم من قضى (24 سنة،خالد السليمان من حزب البعث – جناح العراق).
5 – انحسر دور حزب البعث الحاكم وتحوّل إلى مؤسسة حزبية أمنية رديفة لأجهزة المخابرات،حيث يقوم البعثيون الناشطون بالتلصص على المواطنين وتزويد القوى الأمنية بالتقارير التي ترصد سلوك الناس وأحاديثهم ومجمل نشاطاتهم.
معارضة في ظل ثقافة الرعب!
ومما هو غني عن التفصيل انعكاس الحالة الأمنية المباشر ليس على الأوضاع السياسية في البلاد فحسب ، بل على الأوضاع الاجتماعية التي بدأت تتلوّث بفعل الهواجس الأمنية التي استطاعت السلطة أن تزرعها في نفوس المواطنين،كما بدت هذه المخاوف هي الموجه الرئيس لسلوك العديد من الناس الذين بات معظمهم لا يتجاوز اهتمامه درجة التفكير في تأمين قوت عائلته.
لقد كان مطلع الثمانينيات بداية حقيقية لإرساء ثقافة الرعب من الدولة التي تم اختزالها بشخص الحاكم وحاشيته، كما تم اختزال مفهوم الوطنية بالولاء للقائد الذي بات يملك حق الوصاية على جميع السوريين الذين عليهم دوماً تقديم الولاء لرموز السلطة حتى يحصلوا على نعمة الأمان.
وأوجد الإدمان المستمر على الشعور بالخوف لدى عامة الناس إحساساً عاماً لديهم بأنهم متهمون على الدوام ، ولن يدفع عنهم شبح التهمة سوى المزيد من تقديم الولاءات بمناسبة وبدون مناسبة،ولعل هذا ما يفسر لنا كيف كانت تُنسب كل الفضائل والمنجزات في سوريا إلى القائد، فهو العالم الأول والطبيب الأول والمهندس الأول ………،وهو صمّام الأمان الذي لن تحيا سوريا بدونه. وفي موازاة ذلك ثمة ابتعاد وتحاشٍ لكل ما من شأنه المساس بالسلطة، الأمر الذي جعل العمل الحزبي المعارض ضرباً من المغامرة التي يمكن أن تودي بصاحبها للهاوية،بل بات الاقتراب من العمل السياسي شبهة تستوجب العقاب الذي لا يمكن التكهن بحدوده.
وحيال الظروف الأمنية السالفة كان ثمة خياران لا ثالث لهما أمام أحزاب المعارضة السورية، فإما أن تلوذ بالصمت وتنكفىء، وإما أن تعمل بسرية تحاشيا لبطش السلطة،فالذين صمتوا وتخلوا عن العمل السياسي عاشوا في الظل وبرروا ذلك بعدم جدوى العمل السياسي السلمي في مواجهة الرصاص والمشانق والاعتقال طويل الأمد،وأما الذين اختاروا المواجهة فقد خاضوا مع النظام مواجهة قاسية ودامية غير متكافئة من حيث موازين القوى.
لقد انحسر نشاط الإخوان المسلمين بعد الثمانينيات بسبب حملات التصفية الجسدية التي قام بها النظام ضدهم، وكذلك بسبب الأعداد الهائلة من المعتقلين الإسلاميين في السجون،وبقي عدد من الأحزاب الأخرى الشيوعية والقومية يعمل على الأرض في ظروف بالغة السرية،وهذا ما أثر على أدائها سواء من حيث طبيعة الأشخاص المنتمين إليها،أو من حيث منجزها الحزبي السياسي.
لم تستطع أحزاب المعارضة التقليدية أن تهزم نظام الأسد،بل استطاع هذا النظام شل حركتها وتعطيل أدائها من خلال التنكيل بأعضائها تعذيباً وسجناً طويلاً،ولكنه لم يستطع القضاء عليها أو محوها ، بل ولم يستطع – على الرغم من امتلاكه لكل وسائل البطش والدمار- أن يكسر داخلها الإرادة والوطنية والتطلع إلى الحرية،بل يمكن القول بكل تأكيد إن المقاومة والصلابة التي أبدتها المعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد أمرُ يبعث على الاعتزاز والفخر، ولا أقول ذلك بدافع الانحيازأو المبالغة أو إرضاء الذات، بل هي وقائع لم تعد خافية على المهتمين بهذا الشأن ، وهذا ما يجعلنا نؤكد على الدوام أن المعارضة السورية دفعت ثمناً باهظاً لا يوازي على الإطلاق منجزها السياسي.ولم تستطع هذه الأحزاب – بحكم واقعهاالمأزوم – أن تسهم في تجسيد قناعة لدى الناس مغايرةللقناعة المستقرة في أذهانهم،ذلك أن السوريين لم يحصدوا قطُّ ثمرات نشاط حزبي ملموس في سوريةلاقبل الثورةولابعد انطلاقتها،ويعود ذلك إلى النهج الذي مارسته الأحزاب في تواصلها مع الناس والتعامل مع قضاياهم،حيث اعتمدت على الضخ الايديولوجي وإغراق الناس بالعواطف والأمنيات والأفكار دون ملامسة الواقع الاجتماعي وماتستدعيه حياة المواطنين من حاجيات.
ولانستغرب الإفلاس الذي مُنيت به الايديولوجيات التقليدية بكل أصنافها وذلك إبان انفجارثورات الربيع العربي الذي أثبتت كشوفاته الثقافية أن هواجس المواطن السوري وهمومه ومعاناته لم تكن بمنأى عن اهتمام السلطة الحاكمة فحسب،بل بمنأى عن الأحزاب التي كانت تُصنف في صفوف المعارضة أيضاً.
ولم تتمكن المعارضة السورية أن تجعل من برامجها وشعاراتهاالسياسية برامج حياتية تستمد مضمونها من حياة الناس ونشاطهم الاجتماعي،بل ظلت في غالب الأحيان تدفع ثمن معارضتها للسلطة دون أن تتمكن من تقديم البدائل الأفضل .
ومما زاد الأمرتعقيدا وخطورة ظهورالتيارات الراديكالية في الإسلام السياسي التي ساهمت باستنزاف الثورة السورية وانحراف مسارها،وكان من مفرزات هذه التيارات ظهورالمجموعات المسلحة المتطرفة التي أعادت إنتاج الاستبداد والقمع وممارسة الظلم بأسوأ تجلياته، حيث لم تسع هذه المجموعات أوالتنظيمات المتطرفة إلى العمل لتحريرالمجتمع من الظلم الواقع عليه لتفسح له المجال في اختيار أوصياغة المستقبل الذي ينشده،بل سعت إلى فرض تصوراتها وأجنداتها على المجتمع بالإكراه مدّعية امتلاك الحقيقة كاملة وماعلى الآخرين سوى الرضوخ لها،ووفقاً لذلك،لم يعدالسلاح الذي تمتلكه هذه القوى وسيلة للتغيير والتحرير المجتمعي بل أصبح كابحاً حقيقياً لمسيرة الثورة وأداة لتسلّط جديد وموازٍ لتسلّط نظام الأسد.
سمات الأحزاب السورية وامراضها!
وعلى أية حال يمكن لنا أن تستنتج العديد من السمات التي – كما اعتقد – اتسمت بها جميع أحزاب المعارضة السورية ( الإسلامية والشيوعية والقومية) منذ العام 1970 وحتى الوقت الحاضر، ونوجزها بما يلي:
1 – الانشغال بالإيديولوجيا، والسعي الحثيث على إيجاد مبررإيديولوجي لوجودالحزب،وذلك بدلاًمن الاهتمام بالبرنامج الحزبي الذي ينبغي أن يتجسّدعلى أرض الواقع،وهذايعني أن العقيدة الحزبيةهي مصدرشرعية الحزب وليست الوظيفة الاجتماعية التي يقتضيها الواقع الاجتماعي لحياة الناس.
2 – الاستغراق الكامل في الشأن السياسي للأمة، والاهتمام البالغ بتصديرالخطابات والبيانات التي تلبي – في معظم الأحيان – حاجة نفسية للأنا المهزومة بالدرجة الأولى – وخاصة لدى الأحزاب القومية،وذلك أكثرمن الاهتمام بحاجات الناس الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
3 – الادّعاء بتمثيل جميع الجماهير،دون الالتفات إلى التباين الاجتماعي والفكري بين شرائح المجتمع.
4 – عدم قدرة هذه الأحزاب على إعادة إنتاج مضامينها الإيديولوجية وذلك وفقا لتغيرالظروف والأحوال، الأمرالذي جعل الأفكار الحزبية أقرب إلى أيقونات ذات وظيفة تزيينة غيرقادرة على مقاربة الواقع الاجتماعي.
5 – نموّ لوثة الاستبداد في الممارسة السياسية بسبب الاعتقاد باحتكار الحقيقة،ونفي أي شرعية لوجود الآخر.
6 – الضحالة الفكرية والثقافية في معظم المكوّنات الحزبية، واعتماد الأحزاب السياسيةعلى البرامج الثقافية التي تعزز قناعاتها بسلامة وصحة ما تعتقده فقط، الأمر الذي يؤدي إلى تكلس وتنميط العقل الحزبي وجعله لايرى إلا من ثقب محدّد.
7 – افتقارمعظم الأحزاب إلى رصيد نظري فكري، حيث لاتحفل أدبيات الأحزاب على بحوث ودراسات تتجاوز فترة كتابتها، والاكتفاء بالمنتج الصحفي الاستهلاكي .
ولعلّ هذه العوامل مجتمعة، يضاف إليها ماكانت تمارسه السلطات الاستبدادية، وخاصة نظام الأسدعلى امتداد أربعة عقود من الزمن، قدأدت كلها إلى حالة من التصحرالسياسي، وانعدام إرث سياسي يمكن أن تؤسس عليهالأجيال القادمة.
معارضة لم تستطع تجاوز فكر جلادها!
ولعلّ ماهو مؤلم حقاً أن الأحزاب المعارضة في سورية والتي قدّمت تضحيات هائلة في مواجهتها لنظام الأسد، بل ماقدّمته المعارضة السورية من تضحيات – وخاصةالمعارضة الإسلامية ( شهداء – معتقلون – مهَجرون ) نكاد لانجد لها مثيلا في أي بلد عربي في تلك الفترة الزمنية . ولكن على الرغم من كل ذلك فإن المعارضة السورية وأعني ( الأحزاب السياسية بكل توجهاتها ) لم تستطع تجاوز النظام الحاكم أونظام البعث من حيث آليات التفكير والمنهج في العمل الذي ينعكس على الممارسات والسلوك انعكاساً مباشراً . ودليل ذلك أن كل الأحزاب في سوريا هي عاجزة الآن عن إنتاج مشروع سياسي يمثل مصالح السوريين، كما هي عاجزة عن إحراز حضور فعّال في مسارالثورة السورية.
ولئن كان الاستبداد – كمنتِج لثقافة الخوف – عاملاً أساسياً حال دون وجود ثقافة حزبية ناضجة في سوريا فإن زوال سلطة النظام من المناطق المحررة خلال العام 2012 شهد إقبالاً واسعا على تشكيل كيانات سياسية ومنظمات مجتمع مدني وخاصة من فئة الشباب، وكان من تداعيات ذلك ظهور العديد من الفعاليات المعبرة عن هذه الكيانات (صحف – مجلات – أنشطة ثقافية – منتديات) تحاول التعبير عن تطلعات أصحابها وتصوراتهم لمستقبل البلد والثورة،ولكن من الملاحظ أيضا أن هذه الكيانات كما ظهرت بسرعة فإن قسماً كبيراً منها اختفى أيضاً بسرعة،الأمر الذي يحيل إلى مسألتين هامتين:
الأولى: إن ظهور هذه الكيانات – بشتى أشكالها- وبزخم شديد،هو تعبير طبيعي عن حرمان المواطن السوري من حقوقه المغتصبة في ظل نظام الأسد، كحقه في التعبير والمشاركة في صناعة القرار،وحقه في ممارسة السياسة،ولعلّ الرغبة في استرجاع هذه الحقوق المنهوبة يؤكد أن المواطن السوري لديه الإدراك الكافي والإصرار في الوقت ذاته على التطلّع للعيش في ظل دولة تحترم وجوده وتحفظ حقوقه وكرامته.
الثانية: غياب قسم كبير من هذه الكيانات بعد فترة قليلة من إعلان تشكيلها،يدل ببساطة على أنها كانت تملك مبررات ظهورها ولكن تفتقر إلى أسباب بقائها أو استمرارها،وأعني بذلك افتقارها إلى الحوامل الفكرية والثقافية المؤسسة لها، إنها تمتلك الرغبة والطموح ولكنها لا تملك الإمكانيات الداعمة لهما.
وواقع الحال،أن إشكالية الأحزاب في المجتمع السوري ليست إشكالية ناتجة عن وضع سياسي مأزوم فحسب، بل المشكلة – فيما أعتقد – تكمن في صلب أزمة الثقافة،إذ ثمة قطيعة واضحة خلال عقود خلت بين السياسة والثقافة،ذلك أن السياسة حتى تكون قادرة على استنباط مضامينها ومشروعيتها من السياق الاجتماعي لحياة المواطنين،يجب عليها أن تتأسس على حوامل معرفية متينة ومتضمنة لحدود من المعقولية،ولعله من المؤسف جداً أن مراجعة دقيقة للإرث السياسي الذي خلفته المعارضة السورية منذ مرحلة ما بعد الاستقلال يظهر بوضوح ضحالة وهزالة الحوامل المعرفية والثقافية التي تتقوّم عليها السياسة.
إن الأزمة الثقافية التي أعنيها لا تتجسّد في الحقل السياسي فحسب،بل في الأوساط التي تُنسب إلى الثقافة ذاتها أيضاً،فالذين يعملون في الشأن الثقافي في سورية هم كثر، أكاديميون وسواهم،ولا ننكرقدراتهم الفكرية وكفاءاتهم العلمية،ولا ننكر أيضاً أن لديهم القدرة على استنباط المادّة النظرية التي تمكنهم من الكتابة والتفكير مما لا تتسع له مئات المجلدات،ولكن الذي ننكره عليهم هو أن منتَجهم الثقافي لم يكن مستَمدّا أو مستَنبطا مما يلامس حياة الناس وأوجاعهم وتطلعلتهم،وأعني بذلك أن أي إبداع فكري أو ثقافي إنما يستمد قيمته الجوهرية من بعده الاجتماعي وليس من سواه.
هل سوريا – اليوم – بحاجة إلى أحزاب سياسية؟
أقول نعم وهي حاجة ضرورية، ولكن ما هو ضروري أكثر وجود ثقافة تعمل على إيجاد وعي اجتماعي قادر على ممارسة السياسة، لأن الثقافة عاملٌ مؤسِّس وليست مسألة نافلة.