كثيرٌ منّا يتمنى أن تنتهي الحرب التي طالما أثقلت كاهل السوريين بالجراح والدماء، ليقف الكثير منهم وتأخذه الذاكرة لأيام مضت، أيامَ كان للحياة طعم مختلف، بعيدا عن رائحة البارود والدم، “ويبقى الحي أبقى من الميت” تلك هي الكلمات التي يواسي بها المصاب لأخيه المصاب، ولكن في سوريا، اختلفت الموازين حتى انقلبت جميع تلك الكلمات، فأصبح الموت راحةَ كلّ حيٍّ.
يروي محمد ابن الحادية عشر سنة قصة نزوحه من مدينة حمص إلى مدينة ادلب، وكيف كانت حياته هناك، عمله، عائلته، لقد كانت الدموع تتساقط من عينيه تارة، ويحبسها تارةً أخرى، لم يكن كلامه وحده هو المعبّر، بل كانت عيناه الدامعتان، ويداه المليئتان بجروح العمل، ولكن كانت فاجعته الكبرى بوفاة والدته، لكنه رغم وفاتها هو راضٍ بوفاتها وتركها هذه الحياة ، ” لأني بحبها ما بدي ترجع وتعيش متلنا هلأ.
بدأ الكلام عنها وهو يحمل صورتها بين يديه، يقبلها وخلال الحديث عنها يمسح صورتها من دموعه التي تساقطت عليها، ويتذكر حينما كانت تعد له ثياب المدرسة، تقبله وتستودعه وتقول ” لا تطل الغياب عليّ يا بني وعجلّ في الرجوع إلينا وهي تنظر اليّ بنظرات الخوف والقلق”، ويصف محمد الابن الأكبر لأمه المريضة وأبيه الكفيف مرضها الشديد ” كانت عم تتوجع كتير كتير .. وكل ما اسألها ع محل الصيدلية تقلي ما بعرف محلها”، يصمت محمد للحظات وحال لسانه يقول ” أين التي لملمت شملنا، أفتش أسأل كل العيون، ترى ما الذي قد ألم بنا، وأرفع عيني نحو السما، وأدعو وأدعو أيا ربنا، يتيم أتاك ويرجو الرضا، ويبغي حماك له مأمنا، فشع الضياء وفاض العطا، وهذا مناي وأي منا “.
محمد هو أحد النازحين مع أخوته ال5 وأبوه الكفيف من مخيم “عائدون” في مدينة حمص، ليبدأ من اليوم الثاني لوصوله لمدينة ادلب بالعمل كبائع متجول لعلبة بسكويت في أحياء المدينة وعند سؤاله عن السبب قال ” أحسن ما أشحد بالشارع” كانت إجابته بريئة وعيناه تنظر في المارة محاولاً إقناعهم بشراء علب البسكويت، فهو يشتري علبة البسكويت من محل قريب من منزله، ليجوب الشوارع طوال النهار حتى يبيعها، فقد كان يعمل بها حين كان في حمص منذ أكثر من 3 سنوات.
بيده الصغيرة يخبئ محمد جرحاً عميقاً في وجهه ” وقعت من الطابق الأول لمَا كنت عم اشتغل مع رفيقي بعدما تركت المدرسة” ، لم يرتد محمد المدرسة، فالنزوح المستمر، منعه من الذهاب للمدرسة، ليزجه أبوه في سوق العمل لحاجتهم الماسة للمال، انتقل محمد للعمل في أكثر من مهنة خلال سنة في محاولة لجني قوت يومه وأسرته.
أماني العلي…_ المركز الصحفي السوري