شهدت السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق تنامياً ملحوظاً للنفوذ الإيراني، في غير بلد عربي، وازدادت وتيرته بعد الثورات العربية، خصوصاً في سورية واليمن والبحرين، حتى أصبح يُمَثِل مشروعاً توسعياً حقيقياً لإيران في المنطقة. فتطور الدور الإيراني من التدخل في المعادلة السياسية الداخلية لدولة عربية ما عبر نفوذ إيران على جماعةٍ، أو فصيل محلي؛ إلى محاولة تشجيع ذاك الفصيل، ومده بما يلزمه من عناصر قوة، للهيمنة على مفاصل الدولة كَكُل، ما يثير قلق جيرانها في الخليج العربي، التي باتت تستشعر خطراً وجودياً منه.
ولم تكن العلاقات العربية الإيرانية طبيعية على المستوى الرسمي، منذ انتصار الثورة الإسلامية، حيث اتخذ النظام الرسمي العربي، باستثناء سورية، موقفاً عدائياً من الثورة، لأسباب معلنة غير مقنعة، لأنها، أي الأسباب، كانت قائمة في عهد نظام الشاه البائد، ومع ذلك لم تَحُل دون ارتباط أنظمة المنطقة بعلاقات متميزة معه. (يُسجّل لمُعظم القوى السياسية العربية المعارِضة، على اختلاف توجهاتها، أنها اتخذت موقفاً مغايراً في حينه، ورأت في انتصار الثورة التي أسقطت نظام الشاه مصلحة عربية، فإسرائيل خسرت أهم حليف لها في المنطقة، وكسب العرب مناصراً قوياً للقضية الفلسطينية). إلا أن تغيّر الواقع الجيوسياسي في المنطقة، بعد تدمير العراق، أميركياً وبضوء أخضر عربي، نَقل إيران من وضعية الدفاع إلى الهجوم، ما جعل دول الخليج تستشعر خطراً وجودياً من المد الإيراني، الذي أخذ يطوقها من كل جانب، بشكل مباشر أو عبر حلفاء إيران العرب.
وانعكس التوجس من المشروع الإيراني التوسعي في نتاجات كتّاب ومثقفين عرب، أخيراً، بمن فيهم كثيرون ممن كانوا يدعون إلى الانفتاح على طهران، وتطبيع العلاقات معها، ويُثمن موقفها من قضية فلسطين والمقاومة.
وتكاد تُجمع كل الكتابات النقدية الرصينة للتوسعية الإيرانية، على أنه لولا غياب المشروع
“هناك مشروع إيراني توسعي، يخدم مصالح الدولة الإيرانية على حساب مصالح الشعب العربي. وهو مشروع خطير، خصوصاً أنه يحاول بحركته أن يهدم مقومات أي مشروع قومي عربي مستقبلي” العربي، لما استطاعت إيران أن تستفرد بدولٍ، كالعراق واليمن وسورية ولبنان وفلسطين، وتصبح، عبر حلفائها المحليين، لاعباً أساسياً في الشأن الداخلي لتلك الدول، معززة بذلك موقفها الإقليمي والدولي، على حساب العرب.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه مثقفون عرب أن غياب المشروع العربي يعطي المبرر لإيران لتوسيع نفوذها، فمن حقها كدولة أن تحافظ على مصالحها في محيطها الحيوي، لا بل وأن تعمل على تنميتها، طالما تسنى لها ذلك، وأنه ليس ذنبها غياب المشروع والدور العربي، فالطبيعة لا تقبل الفراغ؛ هناك من جادل منهم بأن غياب مشروع عربي لا يبرر، ولا يعطي الحق، ولا المشروعية، لإيران لأن تستبيح سيادة الدول العربية. وبالتالي، من الواجب رفض تدخلها ذا الطابع التوسعي، والتصدي له.
لكن، هل التوسعية الإيرانية هي المشروع الإقليمي الوحيد النشط في المنطقة؟ وهل القول بعدم وجود مشروع عربي دقيق؟ وهل تمارس إيران، فعلاً، سياسة عدائية “”Aggressive من جانب واحد، تجاه جيرانها العرب؟
قبل الإجابة، لا بد، أولاً، من الاتفاق على مفهوم المشروع العربي، والدور المرتبط به الذي نقصده هنا. فإن كان المقصود به المشروع الذي يعبر عن مصالح الأمة العربية، وتطلعات الشعب العربي التي عكستها شعارات الثورات العربية الأخيرة، بالحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة؛ إن كان هذا هو المقصود بالمشروع العربي، فمن نافلة القول أننا نتحدث عن مشروع موجود في فضاء الأماني والأحلام، لا على أرض الواقع.
المشروع العربي الحقيقي الفاعل، وغير الغائب على الإطلاق، هو مشروع النظام الرسمي العربي، والذي عبّر عنه ما كان يُعرف بمحور الاعتدال العربي قبل الثورات العربية. وهو امتداد طبيعي بالمعنى السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمشروع الذي ناهض المشروع القومي الاشتراكي الناصري، في ستينيات القرن الماضي.
وهو المشروع نفسه الذي اشترك في حرب أميركية، لا ناقة للعرب فيها ولا جمل، ضد المد الشيوعي في القارة الأفريقية، في سبعينيات القرن العشرين، ضمن ما عُرف بنادي السفاري. وهو الذي بنى تحالفاً وثيقاً مع إيران الشاه، على الرغم من احتلالها الجزر الإماراتية الثلاث، وحلفها المعلن مع إسرائيل. ثم عادى إيران الخميني لأسباب لا علاقة لها بمصالح الشعب العربي، وتطلعاته، وشجع العراق على دخول حرب مدمرة معها، استنفدت طاقات البلدين. وهو الذي انخرط في الحرب الأميركية على الاتحاد السوفييتي، بالواسطة في أفغانستان، وجنّد آلاف الشباب العرب، وأرسلهم ليموتوا على أرض ليست عربية، ولقضية لا تمت للشعب العربي بِصِلة، وساهم بذلك، إلى حد كبير، في إنتاج ظاهرة الإسلام الجهادي المسخ. وهو الذي فتح الأبواب أمام الغزو الأميركي للعراق، ممهداً الطريق لتمدد النفوذ الإيراني الذي يشتكي منه أصحاب هذا المشروع اليوم.
إنه المشروع نفسه الذي أَجهَض الثورات العربية، بدعمه أنظمة مستبدة، أحياناً، ومعادياً أُخرى، لأسباب لا علاقة لها بالتي ثارت شعوبها لأجلها، بل ربما تتناقض معها، مساهماً بتدخله، الضار إلى حد بعيد، في تحويل أحلام الثورات إلى كوابيس مرعبة، كما حصل في الثورة السورية.
نعم، هناك مشروع إيراني توسعي، يخدم مصالح الدولة الإيرانية على حساب مصالح الشعب العربي. وهو مشروع خطير، خصوصاً أنه يحاول بحركته أن يهدم مقومات أي مشروع قومي عربي مستقبلي، عبر خلق وعي طائفي لدى العرب الشيعة، وتحويلهم، في كل بلد عربي يوجدون فيه، إلى جماعة سياسية، ترتبط بإيران بأكثر مما ترتبط بوطنها وأُمّتها العربية.
في المقابل، هناك مشروع يعبر عن النظام الرسمي العربي، مرتبط بعلاقة عضوية بأهداف ومصالح توسعية، أخطر وأكثر شراسة وضرراً من التوسعية الإيرانية، وهي التوسعية الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة (وإن كان مصطلح “إمبريالية” يثير حساسية بعضهم، لكنه معبر تماماً عن السياسة الأميركية في المنطقة)، وهذا المشروع عمل على تمزيق الهوية العربية الجامعة لشعوب المنطقة، عبر مذهبة الغالبية السنية لتوظيف ذلك في صراعه مع إيران من جهة، وللتصدي للتيارات الحداثية العربية، من جهة أخرى.
نقد التوسعية الإيرانية ومشروعها في المنطقة أمر ضروري لا بل وواجب على كل مثقف عربي ينادي بالديموقراطية والحرية والوحدة والتحرر من التبعية. لكن هذا النقد يتحول إلى نفاق، أو طائفية مقنّعة؛ إن لم يرافقه نقد أشد حدة، لمشروع النظام العربي الرسمي الذي جرَّ من الويلات والمصائب على رأس الأمة العربية، ربما بأكثر مما تسبب به أعداؤها.
حسن شاهين – العربي الجديد