أحترم جداً خصلة الإحترام التي أورثتني إياها لأني لو أمضيت عمري بحثاً عنها ما وجدتها في الناس كما أخذتها منك.
طالما كتبت عن الثلاث مئة شهيد والمئة معتقل، وعشرات الرفاق الذين غادروا، بل، والطفلة، والمرأة، والعجوز، والشاب ،والرجل، والشيخ حتى أنني كتبت عن حبي، وأملي ،ومواقفي، وكثير من الأشياء تكاد معظمها قد جعلت حروفي تراق بلحظتها لحظة الموقف أو الشعور وليدة الإحساس أو اللحظة التي عيشتها إلا أبي.
كلما حاولت أن اكتب صفحة واحدة عنه إحتبستني خنقةٌ ،وبعدها بقليل تصبح الرؤية معدومة فعيوني تسدل دموعاً غريبة لا يمكنني إيقافها مع أنني أستطيع بالعادة إيقاف ذلك ببساطة، وأحاول الهرب لعزلة ثم أن أسترجع ذكراه بلا تفاصيل، وأتذكر أنه رحل، ويبقى الوصل.
إغتسل أبي بنفسه، ولبس كفنه بيده، وتعطر برائحة الجنة، ومن ثم وقف في ظلمة الليل، وارتقى قمراً إلى السماء رجل كحبة القمح لونه، وقلبه كشعره لم يبق فيه أي شعرة سوداء أبيض من غيوم السماء نفسها، في العقد السابع من عمره، بمجرد أن أخبر الناس أنني ابن فلان، يأتيك إيماء بالمحبة، والاحترام، والود، وكأن اسمه بطاقة تعريفية هذا عنوانها، ورثت عنه بعض العناد، وكثير من الصفات الداخلية، مختلفون نحن كثيراً بطريقة الوصول، متفقين أكثر على الأفكار، والأهداف.
تسعة، وعشرون عاماً قضيتها معه من بينها يوماً تشاركنا فيه زنزانة سأتحدث عن أخر يوم لا أكثر، بدأ هذا اليوم بزفافي بتوقيت تم تحديده بشكل غريب ،وعجيب، وسريع جداً، ولكن الله كان قدقدرذلك لعلمه بما يليه كان هادئاً كأي زفاف في وطني فبين الرحيل، والرحيل رحيل، في ذلك اليوم اجتمع الأقرباء، وكأنه يوم وداع، رأى فيه أبي أخوه، وأخته، والأصحاب، وانقضى ذلك اليوم بليلته، ليأتي يوم جديد بليلة جديدة، ليلة حمراء.
بدأت الليلة التالية بسكون، وفجأة تغير كل شيء، وباتت الأرواح ترتقي، حصدت تلك الليلة 25 روحاً من بينهم أبي، استشهد أطفال، ونساء، ورجال، وشيوخ يومها شيع أبي ما يقارب الخمسة ،وحضر صلاتهم ،وجنازتهم حِممٌ كانت تمطر من السماء لم يكن قبلها للخوف معنى في قلوبنا، وبعدها صار واستقر.
بعد تشيع العشرات عاد للمنزل غبار، ودخان، وزرنيخ يملئ الجو، وساد الهدوء، وكان معظم الناس قد غادروا، ومع أن الهدوء ساد كان القرار بالمغادرة. هذه المرة الوحيدة التي يوافق فيها أبي على المغادرة طيلة خمس سنوات مضت على أمل أن نعود في الصباح التالي الذي لم يبق له سوى ساعات قليلة .
دخل، واغتسل، ولبس كلابيته البيضاء، وعصب رأسه لأن شعره لم يجف بعد، اجتمعنا كلنا عند باب الدار، واتفقنا على بدء نقل بعض الحاجيات الأساسية للسيارة، وبلحظة افترقنا بقيت أنا، وهو فقط، فأدار ظهره ،واستلم جرة الغاز، وبجانبها صندوق خضرة طلبت منه أن يتركها لأحملها أنا فرد بهدوء شديد “أنها ليست ثقيلة” وحمل الجرة، وخطى بعض الخطوات الساكنة، وبدوري ذهبت لأحضر حقيبتي الوحيدة التي تهمني، وفيها حاجياتي المهمة ،والصغيرة.
10 ثوان أو أقل، ووصلت باب الغرفة تماماً، وصدر ذلك الصوت ،وملئ الدخان باحة الدار، وصرخ أخي الذي وصل حينها لساحة الدار التي افترقنا عنها منذ قليل، كانت قد نالت شظية صغيرة من خده عقب الصراخ، عدت مسرعاً أبحث عن أبي فهو حكماً بهذه الأمتار القليلة، ولكن رغم صراخنا هو صامت!
لقد كان مستلقياً، وهادئاً لم أعرف السبب تحسست جسده كاملاً لم يكن هناك أي أثار بعد، وثم لامست يدي مكان الجرح برأسه الأشيب لم يبق أحد ليسعفه ،وحتى السيارة لم تعد تستطيع المشي، و يبدو أن العجز يومها تحول لقوة، ووصلت لحد جعلها تسير لأقرب مشفى. مازال يتنفس، وقلبه ينبض حتى أن الممرض حينها أخذ بيدي ،ووضعها على قلبه فتحسست نبضه ثم على رقبته فتحسست روحه ثم تم نقله لمشفى آخر قرر المشفى الأخير أنه يجب أن يعود للمنزل.
نعم: هل أنت عائد يا أخي الثاني نعم، ومن معك…. معي أبي!
طالما عاد بهذه السرعة فهذه ليست عودة عادية، وإنما العودة التي تسبق الرحيل. رحل أبي …عشنا وأهلي في تيه لأشهر قبل العودة للمنزل…ومضى كثيرٌ بعده، والأن مضينا من الدار وباحتها والمدينة وحجارتها و القبور، وأهلها، وأبي.
بعيداً في السماء هناك، وبعيداً قبره في الأرض هناك، ونحن كلنا بعيدون، تقبلك الله في زمرة الطيبين الصالحين الشهداء، تقبلك الله يا أبي…. كثيراً من حنانك مفقود ليس لي، وحسب، وإنما للناس بفقدانك، و أمثالك، وكثيراً من الأمور كان وجودك يحلها، لن تُحل لأنك غير موجود.
وها أنا ذا أسير اليوم بين الناس متبلغاً، أنهم قد افتقدوا مُحياك، رحم الله ابتسامة دامت مشرقة كما الشيب في محياك.
بقلم: نور نبهان