إلى سابقة كونه أول رئيس عربيّ يرث الحكم عن أبيه، فإن السابقة الكبرى التي اجترحها بشار الأسد، خلال حكمه الذي اقترب من دخول سنته الواحدة والعشرين، كانت أنه الرئيس العربيّ الذي رفض أن يقدّم أي تنازل بسيط أو يسعى إلى أي شكل من التسوية السياسية مع شعبه حين ثار على نظام القمع الممنهج والفساد السوريّ في آذار/مارس 2011.
استُحضر بشار على عجل من لندن بعد وفاة أبيه حافظ الأسد في حزيران /يونيو 2000، كبديل عن أخيه الذي كان يحضّر للوراثة وقُتل في حادث سيارة عام 1994، وبدلا من التواضع الذي يمكن أن يفرضه واقع أنه كان وريثا في جمهورية لا يفترض أن يورّث فيها الحكم، فقد ارتأى أن يثبت أنه أكثر قسوة وإمعانا في البطش من أخيه المعروف بدكتاتوريته، واختار حلا وحيدا للتعامل مع الثائرين عليه وبذلك شهدت سوريا، على مدار أكثر من تسع سنوات سلسلة لا تنتهي من المجازر، والاعتقالات، والتعذيب، وأشكال الإبادة والموت والقصف بأنواعه، وحين كان عتلة الموت لا تحلّ المشكلة كان نظام الأسد يحلّها بمزيد من الموت، حتى فاضت البلاد بالنازحين، وغادر قرابة نصف سكانها هاربين.
تابع العالم تحوّل البلاد، في ظل الأسد، إلى مقبرة مفتوحة، ودخلت قوى إقليمية وعالميّة إلى الجغرافيا السورية المنتهكة، وكانت المفارقة أن آلة قتل النظام ظلّت تعمل على مدار الأيام والسنوات تحت نظر هذا العالم وسمعه، وأنّها تلقّت أشكالا من الدعم العسكري المباشر من روسيا، التي أعادت ضبط استراتيجيتها القديمة للوصول إلى البحار الدافئة، ومن إيران، التي انفتحت الأبواب لها لتشكيل امبراطورية تمتد من اليمن، عبر الحوثيين، إلى العراق، حيث تسيطر الميليشيات الشيعيّة المحسوبة عليها على الأرض، وسوريا، التي وجد نظامها في الجمهورية الإسلامية حليفا يمدّه بالميليشيات والأموال والأسلحة، ولبنان، الذي يملك «حزب الله» فيه جيشا يوازي وقد يفوق جيش الدولة اللبنانية نفسها، فيما تدخّلت تركيا، المحتضنة للمعارضة السورية، والقلقة من تمدّد نفوذ حزب العمال الكردستاني المدعوم من أمريكا، التي حضرت أيضا بدورها لحماية حلفائها ومواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وكانت إسرائيل، التي ساهمت في منع الضربة الأمريكية للنظام خلال حقبة الرئيس باراك أوباما، تنتقي أهدافها وتحارب تمدد النفوذ الإيراني، كما كان هناك حضور للسعودية والإمارات والأردن، بأشكال مختلفة.
نجح الأسد، خلال كل هذه السنوات، بالبقاء بفعل التقاطعات الكثيرة لمصالح الدول المتعارضة، وصعود تنظيم «الدولة الإسلامية» ونظائر «القاعدة»، والحماية الإسرائيلية، ولكنّ شقّا بسيطا بدأه عسكريّ قرّر أن يخاطر بحياته ويهرّب عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب في سوريا بين 2011 و2014، وتابع هذه المغامرة البطولية أشخاص ومنظمات، مثل «هيومن رايتس ووتش»، التي أصدرت تقريرا بعنوان «إذا كان الموتى يستطيعون الكلام»، كما عرُضت الصور في الأمم المتحدة وفي أمريكا وسويسرا، وصولا إلى اقتناع أشخاص من الحزبين الكبيرين في الكونغرس الأمريكي بضرورة حماية المدنيين السوريين ليقرّ مجلس الشيوخ القانون عام 2019، وليدخل حيز التنفيذ بدءا من أمس.
أعلن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو أمس عن عقوبات بحق الرئيس السوري نفسه، وزوجته، وأخيه ماهر، وعدد من المسؤولين، كما أنه سيشمل بعقوباته الأفراد والجهات والدول التي ستقدم الدعم للنظام، إلى أن تتحقق شروطه ومنها «حماية المدنيين»، وتواقت هذا الإعلان مع الحكم على رفعت الأسد، عم الرئيس السوري، بالسجن أربع سنوات بتهم الاحتيال وتبييض الأموال، وبذلك يبدو أن الدائرة بدأت تدور على الباغين، والمسؤولين عن خراب سوريا والكارثة التي حلّت بشعبها، وأن النظام، لن يستطيع هذه المرّة أن يتعامل مع قانون قيصر بالقصف، كما يفعل مع شعبه.
نقلا عن القدس العربي