منذ أشهر تنام عائلة الشابة السورية خالدية (طفلاها وزوجها)، في حديقة حي بورت سانتوا شمالي باريس، لا تملك خالدية شيئاً باستثناء أوراق عدة تثبت رفض طلب لجوئها مع عائلتها من قبل الحكومة الفرنسية وورقة تثبت منحهم الحماية الإنسانية لمدة سنة، (إجراء يسمح لهم بالإقامة لمدة عام في فرنسا على أن يتم تجديد الحماية سنوياً).
تقول خالدية، والتي كانت تسكن مدينة بانياس على الساحل السوري، إن مشكلتها لا تختصر في تلقي بعض المال أو الطعام والملابس، إذ إنها ستلد قريباً طفلها الثالث، وتتمنى لو جرى الأمر تحت سقف؛ أي بيت في فرنسا.
تؤكد ناشطة حقوقية فرنسية، من أصل مغربي، أنها تتابع حالة اللاجئين السوريين المتواجدين في حديقة حي بورت سانتوا، ومنهم خالدية التي تعاني منذ أشهر من أجل الحصول على سكن يؤوي العائلة، من السلطات الفرنسية، وفقاً لإجراءات الحماية، لكن المنظمات المعنية بإيجاد سكن للاجئين المقيمين في فرنسا لأكثر من ثلاثة أشهر وفقاً للقانون الفرنسي، لم تساعدها حتى اللحظة، في إيجاد سقف يؤويهم.
تأليب الرأي العام الفرنسي على السوريين
وثقت “العربي الجديد” عبر جولة ميدانية، في حديقة حي بورت سانتوا، تواجد عشرات العائلات في الحديقة، تدعي أنها سوريّة، لم تساعدهم الدولة الفرنسية، ولا سفارة الائتلاف السورية، ما جعل معاناتهم في تزايد مستمر. عبر التواصل مع سفارة الائتلاف السوري المعارض في باريس، وسؤالها حول معاناة هذه العائلات ودورها، حذرت كاتب التحقيق من وجود بعض شبكات “التسوّل” التي تضم عائلات من سورية وغير سوريين، يملكون بيوتاً وسط باريس وسيارات ويتسوّلون لجمع المزيد من المال، على الرغم من تقاضي العائلة راتب 450 يورو للشخص، و نحو 800 يورو للعائلة.
ويحذر محمد صديق، الموظف في سفارة الائتلاف السوري في باريس، أن من بين هؤلاء من هو مؤيد لنظام الأسد كما رصدت السفارة، قائلاً “بعضهم قام باستفزازات ونحن نساعد أي حالة تستحق المساعدة إن وجدت، حتى لو كانت مؤيدة للنظام”.
بحسب ما وثقته “العربي الجديد” واطلاعها على تفاصيل قصة خالدية، تبيّن بالفعل أنها بحاجة للمساعدة، وأن الصورة أصدق من التحذيرات التي تلقيناها، لكن اللاجئة السورية خالدية قالت لـ”العربي الجديد”: “هناك فعلاً شبيحة بيننا، وهناك من لديه بيت وسيارة وراتب مساعدات من الحكومة الفرنسية (RSA) وهناك من يماطل في تقديم أوراق لجوئه لأنه ينوي جمع المال والسفر إلى دولة أوروبية ثانية”.
ووصفت خالدية هؤلاء بأنهم يقطعون على عائلتها طريق المساعدة وحل مأساتها، قائلة “هؤلاء يجبروننا على ما يسمونه المشاركة بالمساعدات التي يأتي بها الفرنسيون إلى الحديقة، بعضهم يحتاج وبعضهم لا، والكل لا بد أن يأخذ، كما أنهم يختصرون ما يحدث في سورية خلال أحاديث مع ممثلي وسائل الإعلام الفرنسية، بأن ما يحصل هو حرب بين الإرهاب والنظام”.
يطابق ما أكدته سفارة الائتلاف وحديث خالدية، ما توصل إليه كاتب التحقيق، بحضور الحقوقية الفرنسية من أصل مغربي، حول لاجئ سوري لديه إقامة في بلجيكا لكنه ينام في هذه الحديقة وسط باريس لأنه “يشعر بالاطمئنان إلى جانب السوريين كما أن المساعدات التي تصل إلى الحديقة لا بأس بها”، كما يقول.
اعتداءات
أثناء جولة “العربي الجديد”، وصل شاب عشريني، أيقظ طفل خالدية البالغ من العمر سنتين، ثم حمله وذهب إلى إشارة المرور القريبة من الحديقة، وبدأ في التسول، على الرغم من اعتراض الأم وطلبها منه أن ينتظر حتى يستيقظ طفلها، أما علي، زوج خالدية، فلم يبد أي اعتراض.
في أحد أركان الحديقة، بينما يصور كاتب التحقيق، صرخ رجل عرف نفسه بأن اسمه “أبو الزوز”، قائلاً “لسنا سوريين، ليش عم تصور”، ما أثار صدمة لدى الناشطة الحقوقية، إذ لم يرفض “أبو الزوز” وغيره من اللاجئين التصوير مع وسائل الإعلام الفرنسية، ولم يعترض أحد منهم على أي تغطية من قبل بل إن صورهم موجودة على أكثر من موقع، تدخلت خالدية وصرخت بوجهه إنها تريد حلاً نهائياً لمشكلة سكنها، وأن عليه مغادرة الحديقة إلى بيته وأن يتوقف عن “الشحادة” في سبيل جمع ثروة، ثم تحدثت بأن زوجها (وكان قد اختفى من المكان) يجبرها على البقاء في الحديقة وأنه ضربها قبل أيام لأنها طالبته بترك الحديقة.
ثارت ثائرة “أبو الزوز” مهدداً بأنه إذا شاهد صوره في أية وسيلة إعلام عربية، أو على “فيسبوك”، سيكون ثمنها وثمننا رصاصة، وعلى الرغم من التأكيد بأن الهدف من العمل هو مساعدة اللاجئين السوريين، أحضر أصدقاءه الجالسين في الزاوية الأخرى من الحديقة وانهال بالضرب على كاتب التحقيق، ثم هرب وعائلته والعديد من الشباب بسياراتهم المركونة إلى جانب الحديقة.
يكشف متطوع سوري في الصليب الأحمر الفرنسي، فضل عدم ذكر اسمه، أن “السيارات التي يركبها هؤلاء قاموا بشرائها من إيطاليا وإسبانيا فور وصولهم إليها، بما لا يتجاوز مبلغ الألف وخمسمائة يورو”.
كيف تحولت الحديقة إلى أيقونة تسوّل؟
أبدى أحد الشبان السوريين المقيمين في الحديقة، استعداده للإدلاء بشهادة كاملة حول ما يجري هناك، لكنه اعتذر لاحقاً عن الحديث في الموضوع. وتؤكد سفارة الائتلاف في باريس أن فرنسا استقبلت أكثر من خمسة وستين عائلة من السوريين الذين وصلوها قادمين من إسبانيا عن طريق المغرب العام الماضي، وبعد اعتصام قاموا به في الحديقة، وتدخل شخصيات من اليسار الفرنسي وكذلك مساعٍ لسفير الائتلاف في فرنسا منذر ماخوس، تم نقلهم بشكل جماعي إلى سكن جيد وتم تسريع إجراءاتهم القانونية ليصبحوا لاجئين رسميين بمدة قياسية.
ويؤكد منذر ماخوس، سفير الائتلاف السوري، في باريس، لـ”العربي الجديد” أن بعض العائلات عادت إلى الحديقة بعد أن تحولت إلى أيقونة “تسوّل”، ولكن الحكومة الفرنسية أغلقتها بشكل نهائي ليتم حرمان حتى الفرنسيين من أهالي المنطقة من دخولها، لينتقل بعدها هؤلاء السوريون إلى حديقة مجاورة لا تحتوي على سور وأبواب، يأتون إليها صباحاً وينامون ليلاً في بيوت جيدة وتقع وسط العاصمة الفرنسية باريس، كذلك يرفض هؤلاء إظهار مشكلتهم إلى العلن لأنهم يعتبرونها بمثابة قطع “رزقهم” في التسوّل.
يقول سفير الائتلاف السوري في باريس منذر ماخوس لـ”العربي الجديد” إن استغلال هؤلاء لأطفالهم يحتاج إلى أدلة أكثر من مجرد صور، والشرطة تراهم ليل نهار، ولكنها لا تمتلك الحق بطردهم من الحديقة، ولا تتضمن مهام الشرطة هنا إجبار الأطفال على ترك الشارع، وهو ما يصعب من مهمة إحالتهم إلى جهات القضاء من أجل محاكمتهم.
ويتابع ماخوس: “هؤلاء سوريون يسيئون إلى الشعب السوري”، يتابع ساخراً “أنا كسفير أحلم بسيارة كسياراتهم وأعرف رجالاً مقيمين في أوروبا منذ سنوات يأتون إلى الحديقة ويتحدثون إلى وسائل الإعلام الفرنسية كي يشوهوا الصورة فقط، بكل صراحة أغلبهم ليس بحاجة إلى مساعدة، ولكن لا بد لنا من امتلاك دلائل على أن هؤلاء يستغلون الأزمة لأجندات خاصة”.
ويضيف سفير الائتلاف السوري في حديثه لـ”العربي الجديد” داخل مبنى السفارة: “تكلمت مع رئيس الأوفبرا (محكمة عليا تمنح اللجوء) حول ذلك، والفرنسيون رأوا سياراتهم، وهم يتعاملون معهم على أساس قضية إنسانية لا سياسية، وهذا ما يفسّر عدم نيل أغلبهم صفة اللجوء السياسي وإنما حماية إنسانية لسنة واحدة فقط.
الجالية السورية تتحمل جزءاً من التقصير
يؤكد المتطوع السوري في الصليب الأحمر الفرنسي، وجود مؤيدين لبشار الأسد بين المقيمين في حديقة حي بورت سانتوا شمالي باريس، قائلاً إن “المهربين يرسلون السوريين الواصلين حديثاً من إيطاليا وإسبانيا إلى الحديقة، ولا يعرف أحد مع من هؤلاء، ولا يوجد قوة دبلوماسية أو اجتماعية لدى الجالية السورية تؤثر في الحكومة الفرنسية أو تهتم لأمر هؤلاء”.
وحول استخدام أطفال اللاجئين في التسوّل، يقول المتطوع السوري والناشط في مجال حقوق الإنسان، إنهم بحاجة إلى المال، لأن هناك من يرسل المال إلى أهله في سورية وبلدان اللجوء المجاورة، مؤكداً وجود أكثر من “تسعين” جمعية خيرية في فرنسا تعمل باسم السوريين، فيما يتحدث العديد منهم عن أنه لا يتلقى شيئاً، يتابع قائلاً “بما أن الائتلاف السوري لم يستطع إيجاد بيت سوري في باريس لاستقبال القادمين الجدد فمن حق هؤلاء العيش وإيجاد مكان من أجل أن يعيشوا فيه”.
ويبلغ عدد الجالية السورية في فرنسا نحو 70 ألف سوري، وصل 10 آلاف منهم إلى فرنسا بعد الثورة، بحسب إحصاءات متداولة بين نشطاء في الجالية السورية في باريس.
وكانت الشرطة الفرنسية قد أجلت جميع العائلات من الحديقة قبل أسبوع، إلا أنهم اختفوا بضعة أيام ثم عادوا من جديد لممارسة “المهنة” وهذه المرة ليس في البورت سانتوا فقط؛ بل في الشانزلزيه وقرب برج إيفل، كما يقول الصحافي السوري صخر إدريس، المقيم في باريس، والذي دخل في مشادة كلامية مع رجلين، يحملان جوازات سفر سورية واضحة التزوير، ويتسولان على أنهم من السوريين، سرعان ما هربا إلى مكان آخر بعد أن قام بتصويرهما. ويحذر صخر من استغلال محنة السوريين، من قبل مدعين يجمعون مالاً لا يستحقونه، ما يضر بقضية اللاجئين.
العربي الجديد – نبيل شوفان