تبدو الولايات المتحدة واحدة من “دول الموز” الروسية عندما يتعلق الأمر بسورية؛ إذ توقفت أخيراً حتى عن استخدام سلاحها الوحيد هناك، وهو مجرد “إدانة” استهداف روسيا ونظام بشار الأسد للمدنيين بشكل ممنهج. لكن الولايات المتحدة ذاتها لا تعير أدنى اهتمام، باعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتحذيرات موسكو، بل وتهديداتها، رداً على النشاط العسكري المتزايد لحلف شمال الأطلسي في المجال الحيوي الروسي بأوروبا، لاسيما مع تشغيل منظومة الدرع الصاروخية الأميركية التي اعتبرها بوتين “تهديدا للأمن العالمي.. وخطوة نحو سباق تسلح جديد”؛ متوعداً رومانيا وبولندا بأنهما “قد تجدان نفسيهما في مرمى الصواريخ الروسية” بسبب وجود أجزاء من تلك المنظومة على أراضيهما، لأنه “لا يريد أحد أن يسمعنا.. لا يريد أحد أن يتفاوض معنا”، بكلمات بوتين.
يقابل هذا التناقض الأميركي أساساً، تناقض روسي يظهر في الحرص -حد الاستجداء- على تعاون وتنسيق كاملين مع الولايات المتحدة بشأن العمليات العسكرية في سورية، بدلاً من معاملة واشنطن بمثل ما تعامل به موسكو بشأن أوروبا. وهذا التناقض الروسي يُظهر في الحقيقة إدراك موسكو لورطتها بالتدخل العسكري المباشر لحماية بشار الأسد. وهو إدراك قد يُفسر بدوره حرص روسيا، مباشرة أو عبر طيران الأسد، على إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا المدنيين السوريين، عبر استهداف المدن وأسواقها، كما المستشفيات ومحطات تنقية المياه وسواها.
طبعاً، تعرف موسكو كما الجميع، أن الولايات المتحدة نحت نفسها عن منطقة الشرق الأوسط بكامل اختيارها. وهو ما ينطبق تماماً على منع إسقاط بشار الأسد؛ إذ جاء بقرار أميركي واع، جسده ليس التراجع عن الخط الأحمر الشهير للرئيس باراك أوباما عقب استخدام الأسد السلاح الكيماوي ضد السوريين، بل منع السلاح النوعي عن فصائل المعارضة السورية كافة، حتى قبل ظهور “داعش” و”جبهة النصرة”.
لكن ما أدركته موسكو مؤخراً ربما، هو أن واشنطن تنظر فعلاً إلى أغلب إن لم يكن جميع فصائل المعارضة، باعتبارها تهديداً لها ولمصالحها في المنطقة. ومن ثم، يكون استهداف هذه الفصائل، إضافة إلى “جبهة النصرة”، من قبل روسيا، ليس أقل من تنفيذ للأجندة الأميركية بالمجان؛ مادياً ولربما معنوياً، خصوصاً مع توثق علاقات روسيا بإسرائيل التي تكاد تكون المصلحة الأميركية الوحيدة الباقية في المنطقة، بل ويبدي بوتين حرصه على سمعة إسرائيل بأثر رجعي، معيداً لها الدبابة الإسرائيلية الوحيدة التي غنمها الجيش السوري قبل عقود! وفوق كل ذلك، تحصد الولايات المتحدة الإنجاز الأهم بالقضاء على تنظيم “داعش” بدعم الحليف الموثوق الوحيد في سورية، أي الأكراد، تحت مسمى “قوات سورية الديمقراطية”.
لكن هل يُعقل أن روسيا تظن أنها قادرة على استجداء تعاون أميركي بسفك دماء المدنيين السوريين؟ هذا وهم لا يليق بدولة تمني النفس بالعودة إلى منزلة “عظمى”! فواشنطن قبلت قتل مئات آلاف السوريين على يد الأسد، وتهجير ملايين آخرين؛ وقبل ذلك سلمت العراق لإيران للممارسة التطهير العرقي هناك منذ العام 2003 وحتى الآن. كذلك، لا بد أن روسيا تعرف أن السوريين الأحرار هم التهديد الوحيد لمصالح أميركا؛ لاسيما إسرائيل، كما تشهد حرب حزيران التي نتفيأ ذكراها هذه الأيام، حين تم إسقاط هضبة الجولان قبل وصول الجيش الإسرائيلي لمشارفها، ثم حماية احتلالها عقوداً، من قبل نظام الأسد وحده.
الغد الأردنية