تتسارع وتيرة الأحداث وتتوالى الانفجارات في بركان الشرق الأوسط الكبير ويفصلنا أسبوعان عن موعد افتراضي لتوقيع اتفاق إطار عام حول الملف النووي الإيراني، فيما تستعر المواجهات من جنوب سوريا إلى شمال العراق ويبرز الاشتباك الإقليمي في اليمن. إننا في مرحلة المشهد الأخير من مسلسل المفاوضات الغربي-الإيراني الممتد منذ 2003. ومن الآن إلى نهاية شهر يونيو سيكون التصعيد الميداني سيد الموقف بانتظار جلاء الصورة ومواقع اللاعبين وأدوارهم في فصل آخر من اللعبة الكبرى الجديدة للقرن الحادي والعشرين الممتدة من باب المندب إلى شرق المتوسط.
نظرا لرهان الرئيس باراك أوباما على تحقيق إنجازه الكبير في هذا الملف، وتبعا لرغبة طهران في عدم الفشل كي تحصل على رفع العقوبات الاقتصادية ومتابعة تنفيذ استراتيجيتها الإقليمية، تتجه الأمور نحو التوصل إلى اتفاق سياسي وإطار عام يستكمل، لاحقا، من الناحية التقنية، وهذا الجدول الزمني الذي اقترحته واشنطن وافقت عليه طهران التي كانت تطالب بسلة كاملة أواخر هذا الشهر، مع رفع لكل العقوبات المفروضة منذ 2006، لكن المراسلات التي تمت بين سيد البيت الأبيض والمرشد الأعلى لإيران أسفرت عن طمأنة علي خامنئي.
استباقا لقيود سيفرضها الكونغرس على مجريات الشوط الأخير من التفاوض، والتفافا على خطاب نتانياهو المثير للجدل، بادر أوباما بطرح فكرة تعليق الأنشطة النووية الإيرانية لمدة عشر سنوات كي يثبت صحة نظريته التي تقول إن أفضل وسيلة لمنع تحول البرنامج النووي الإيراني إلى برنامج عسكري هو مواكبته والرقابة عليه. بيد أن “العشق الممنوع” الذي لم يستكمل حتى الآن بين من كان سابقا “الشيطان الأكبر” وركيزة “محور الشر الإرهابي”، يدفع أوباما المتيم لاستنباط المخارج، وها هو يوفد وزيره جون كيري إلى دول مجلس التعاون الخليجي كي يطمئنها نظريا عن عدم قبول واشنطن بتحول الاتفاق العتيد والمنتظر إلى رأس حربة لإيران كي تواصل تنفيذ مشروعها الإمبراطوري والانتقال ربما نحو عاصمة خامسة أو بلد جديد، ولم لا في قلب الخليج في المنامة أو صوب المملكة العربية السعودية بالذات وذلك على ضوء الإمدادات الكثيفة الآتية من إيران إلى صنعاء التي يسيطر عليها “أنصار الله” الحوثيين، الذراع الإيرانية المتقدمة على البحر الأحمر وعلى تخوم غربي المملكة.
لا يعني التفاؤل السائد أن كل العقبات تم تذليلها، وليس من الضروري إذا تم توقيع اتفاق الإطار العام هذا الشهر، أن يتم توقيع الاتفاق النهائي في يونيو القادم. بيد أنه بغض النظر عن الخلاصة، تسعى طهران لفرض الأمر الواقع في عدة أمكنة، وليس من قبيل الصدفة أن تتزامن محاولة استكمال السيطرة على مفاصل الدولة في اليمن، مع هجومين كبيرين في جنوب سوريا (تحت الإمرة المباشرة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني)، وفي شمال العراق في قلب البلد العربي السني في تكريت، مع ما للمكان من رمزية وأهمية جغرافية في قطع إمدادات وحركة الطرف الآخر.
تفسر هذه العجلة من قبل قيادة الحرس الثوري الإيراني بالرغبة في التمويه والتغطية على تنازلات في الملف النووي، حيث أن استثمار مليارات الدولارات وتحمل آثار العقوبات لم يكن من أجل قبول برنامج نووي “بلا أنياب”، أو من أجل قبول دور شرطي إقليمي تحت مظلة المصالح الأميركية.
يستمر التوغل الإيراني والغرق في المستنقعات من العراق إلى سوريا (التي تتحول تدريجيا إلى فيتنام إيران وحزب الله حسب شهادة جنرال سوفياتي عايش حربي فيتنام وأفغانستان)، لكن ذلك لن يمنع التحول العميق الذي سيجري داخل إيران، وهو في حده الأدنى الانتقال إلى صيغة جديدة للجمهورية الإسلامية تنتهي فيها حقبة الثورة الطويلة وتكون العودة نحو الدولة، مع ما يعنيه ذلك من تساؤلات حول مستقبل مؤسسة الولي الفقيه بالنظر للوضع الصحي لعلي خامنئي والتنافس على المنصب بين آية الله هاشمي شهروردي (العراقي الأصل) والرئيس حسن روحاني. والإشكال الأكبر سيكون حيال مستقبل الحرس الثوري وموقعه المهيمن في السياسة والاقتصاد والإعلام، وقد منحه المرشد كل هذا الدور بعد انتفاضة 2009 للإمساك بزمام الأمور.
نجحت طهران في الاستفادة من تداعيات الحربين الأميركيتين في العراق وأفغانستان، ومن المفاوضات إزاء الملف النووي، في استنهاض مشروع قومي إمبراطوري يضمن لإيران الديمومة ولطموحاتها الإقليمية الفرصة للتحقق. لكن الحقيقة ستظهر بعد توقيع الاتفاق أو الفشل في إنجازه وستكون لكلا الاحتمالين تداعياتهما.
يهلل البعض لطهران “صانعة الملوك” في الإقليم، ويشبه البعض الآخر إيران بـ“ناطورة المفاتيح”. يستند هؤلاء إلى أن الاتفاق النووي مع الغرب هو بمثابة المكافأة أو الضوء الأخضر لاستمرار التقدم الخارجي أو لتحصين المكاسب في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت. بيد أن الصورة أعقد بكثير واللعبة مفتوحة ولن تنتهي آلام الإقليم ومخاضه مع إغلاق ملف المسلسل الأميركي الطويل من المفاوضات العلنية والسرية، ومن الحروب ومن الفوضى غير الخلاقة لرسم منظومة جيوسياسية مجهولة المعالم والحدود.
مركز الشرق العربي – الدكتور خطار أبو دياب