إذا كنتَ تظن أن التدخّل الإيراني في سوريا يقتصر على أسبابٍ وعوامل سياسية وعسكرية تحكُم حساباته وخطواته، فإنك ولا شك غافلٌ عن جانب مهم لا يتم تداوله على نطاق واسع إعلامياً.
فإن كان دعم نظام الأسد بالسلاح والجنود والمال لتثبيت حكمه، هو ما يطغى على المشهد، فإن خلف مسرح الدمى هذا إيادٍ تتحرك بدوافع مغايرة، فبدون ضوضاءٍ يتمدد النفوذ الإيراني على الأرض السورية تدريجياً، ومن بوابةٍ لا تلفت الانتباه رغم أنها الأهم، ألا وهي الاقتصاد.
يوثّق هذا التحقيق، أبرز المكاسب الإيرانية الاقتصادية في سوريا، والتي تنعكس اليوم من خلال الدّين المباشر الذي تتكبده خزينة نظام الأسد، إضافةً إلى الامتيازات الاقتصادية الكبيرة التي حقّقتها إيران خصوصاً على صعيد البنى التحتية، فبينما يستمرّ تدفق مقاتلين الميليشيات الإيرانية من جهة، يواصل نظام الملالي وضع يده على مقدرات سوريا الاقتصادية من جهة أخرى، وسط رضوخٍ تام من قبل النظام لما تمليه أطماع إيران.
بالأرقام
في ظل عدم إفصاح أي من الطرفين؛ نظام الأسد أو إيران عن حجم الديون، قدّرت مصادر مطلعة هذه الديون بما يتراوح بين 30 -40 مليار دولار أمريكي.
وفي منتصف العام الماضي، نقلت صحيفة ليبيراسيون الفرنسية عن المبعوث الدولي إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا قوله: “إن نظام الأسد مَدين لإيران بنحو 35 مليار دولار، لكن طهران لم تعد قادرة على الاستمرار في إغداق الأموال على الأسد، إلا بشروط أبرزها هيمنة إيرانية كاملة على آلية صنع القرار في دمشق”.
وتتراكم هذه الديون “إثر رفد آلة النظام العسكرية بالمقاتلين والأسلحة بأنواعها المختلفة، فضلاً عن تأمين الوقود اللازم لمختلف القطاعات والمؤسسات التي يديرها النظام”، حسبما يؤكد الباحث والخبير في الشأن الاقتصادي، حسين الجنيد.
ويضيف جنيد في حديث لـ صدى الشام، أن التمويل العسكري لا ينفصل عن التمويل الإداري، وذلك من خلال حرص إيران على ضخ الأموال والوقود والقطع الأجنبي، بما يبقي “هيكلية الدولة في سوريا قائمة كما كانت، وذلك عبر تأمين احتياجات السوريين الذين يعيشون في مناطق النظام، ودفع الرواتب وغيرها”.
وإضافةً إلى هذا الدعم الذي قدّمته إيران، فإنها فتحت في تموز من عام 2013، خطّاً ائتمانياً، بموجب اتفاق مع بنك سوريا المركزي، وذلك بقيمة 3.6 مليار دولار، بهدف تغطية إمدادات النفط الإيرانية إلى مصفاة بانياس، لتُضاف هذه القيمة إلى مليار دولار سابقة، خصصها نظام الأسد لشراء منتجات غير نفطية من إيران، التي كانت قد منحت النظام سابقاً قرضين بقيمة 4 مليارات دولار.
وفي عام 2014، طلب نظام الأسد من إيران، تقديم خط ائتماني جديد، قيمته 4.7 مليار دولار، لكن هذا الخط لم يتم فعلياً، وبدلاً من ذلك عُقدت اتفاقيات ضخمة في مجال قطاع الأدوية والمواد الغذائية والمشتقات النفطية وقطع غيار المعامل ومحطات الطاقة الكهربائية والمطاحن والصوامع واحتياجات القطاع الزراعي والموارد المائية.
والخط الائتماني هو تسهيلات مالية تمنح لعمل ما بواسطة بنك، ومن الناحية الاقتصادية يعّبر الائتمان هن التزام جهة لجهة أخرى بالاقراض بمعنى منح المقترض مهلة من الوقت يلتزم عند انتهائها بدفع قيمة الدين مضافاً إليه الفوائد المتفق عليها سابقاً بين الطرفين.
تخطيط على المدى البعيد
وتحاول إيران من خلال مواصلة دعمها للأسد ألّا تستردّ ما تقدّمه كأموال، بل إنها راحت تبحث عن مقابلٍ آخر ألا وهو السيطرة على البنى التحتية السورية، وهي استراتيجية تضمن لإيران استمرار نفوذها في سوريا لاحقاً، حتى بعد انتهاء الصراع القائم، وذلك عن طريق الامتيازات الاقتصادية التي حصلت عليها من ناتج إجمالي الديون والخطوط الائتمانية.
وهذا الأمر أقرّت به المصادر المقرّبة من إيران قبل المعادية لها، ففي عام 2015، نشر الصحافي الأردني المقرّب من النظام، ناهض حتر مقالاً في جريدة الأخبار اللبنانية الموالية لحزب الله، فجّر فيه مفاجئةً مفادها “أن معظم الدعم العسكري والاقتصادي الإيراني، للسوريين، تمّ بشروط تجارية، بما فيها من رهنٍ لأراضٍ وعقارات حكومية، مقابل الديون”.
ومن جهته، فإن الخبير في الشؤون السورية والإيرانية رافي زاد، أكد في تصريح سابقٍ له، أن “لدى إيران خطة على المدى الطويل تهدف للسيطرة على سوريا اقتصادياً وجغرافياً بعد الحرب سواء بقي الأسد أم رحل”، لافتاً إلى أن “المساعدات الإيرانية المالية والعسكرية وفي مجال الطاقة، وكذلك الاستثمارات في البنية التحتية، لا تزال معظمها في شكل تسهيلات ائتمانية وقروض، ستسترد ثمنها في العقارات السورية عن طريق شراء الأراضي”.
وأشار زاد إلى أن هذا التحول في العلاقة الاقتصادية بين طهران ودمشق، يمكن أن يكون له انعكاسات كبيرة على نفوذ إيران الجيوسياسي والاقتصادي في المنطقة على المدى الطويل، لافتاً إلى أن “المساعدات الإيرانية المالية والعسكرية وفي مجال الطاقة، وكذلك الاستثمارات في البنية التحتية، لا تزال معظمها في صيغة تسهيلات ائتمانية وقروض، لكن كيف ستسدد سوريا هذه القروض إذا تمت الإطاحة بالدولة العلوية من السلطة؟” بحسب تعبيره.
وبيّن أن خطة طهران تحتاج إلى مدى الطويل لتؤتي ثمارها، في حال انتهت الحرب ببقاء أو رحيل الأسد، وهي أجندة اقتصادية تشبه خطتها في العراق بعد الغزو الأميركي، لكن الفرق هو أن إيران سوف تسترد قروضها عبر عقود في العقارات السورية عن طريق شراء الأراضي، موضحاً ان هذه الاستثمارات لا تتم مع الأسد فحسب، بل مع كثير من الميليشيات الشيعية الأخرى.
وتابع أنه “حتى إذا انتهت الحرب في سوريا، ستكون إيران اللاعب الأكثر أهمية في الاقتصاد السوري، ولا سيما بعد الاتفاق النووي الذي جعلها أكثر قوّة وأزال العقوبات عنها وجعل نفوذ إيران الاقتصادي في سوريا أكبر”.
وعلّق الخبير الاقتصادي حسين الجنيد على هذه النقطة قائلاً: “إنه في الفترة الممتدة بين عامي 2013 و 2016، أدّى نظام الأسد المهمّة الموكلة به، والمتمثّلة بوضع يد إيرانية في سوريا بحيث لا يمكن قطع هذه اليد حتى لو تم إزاحته عن الحكم”.
وأضاف أن الأطماع الإيرانية بدأت فعلياً في مطلع عام 2013، عبر بدء ضخ الاستثمارات وإغراق النظام بديونٍ يصعب على أي حكومة لاحقة بعد النظام أن تقوم بإيفائها، ما يجعل إيران تضمن مصالحها اقتصادياً في البلاد.
ومن الأمثلة على نفوذ إيران هذا، منجم الفوسفات في منطقة خنيفيس الذي حصل الإيرانيون على عقد لاستثماره مطلع العام الجاري، فيما تحاول اليوم الميليشيات الموالية لها التقدّم برياً للسيطرة على المنجم.
وأوضح أن كل هذه العوامل تعزّز المخاوف من استفحال التمدد الإيراني في سوريا إلى الدرجة التي تمكّن طهران من امتلاك أراض سورية وعقارات حكومية وخاصة، في حال عجز حكومة النظام عن الوفاء بديونها لطهران.
عقوبة
في 30 من شهر أيلول من عام 2015، أعلنت روسيا عن تدخّلها العسكري المباشر في سوريا، انطلاقاً من قاعدة حميميم الجوية التي أسستها كنقطة وجود أساسية لها، ثم راحت تتمدد وتثبت أقدامها بأشكال متعددة.
لكن هذا التدخّل لم يُرضِ إيران التي تراجع نفوذها بشكلٍ كبير في سوريا، وبات اللاعب الأساسي في الحالة السورية هو روسيا، التي سيطرت بشكلٍ مطلق على قرار النظام.
وكردّ فعلٍ من إيران، قامت بمعاقبة نظام الأسد، وحرمته من الوقود والفيول الخاص بتشغيل الكهرباء بعد أن كانت تمده بهذه المواد لفترة طويلة، وهو ما وضع حكومة النظام في موقفٍ حرج أمام مواطنيها، حيث بلغت انقطاعات التيار الكهربائي مستويات قياسية، إضافةً لتكدّس السيارات أمام الكازيات في ظل غياب المشتقات النفطية كالبنزين والمازوت.
ويرى المحلل الجنيد، أن إيران لم تقم بتلك الخطوة تجاه نظام الأسد إلا حين نفذ صبرها، بسبب انحسار دورها، ما دفعها للقيام بعملية “فركة أذن” لنظام الأسد، على ما يصفها الجنيد، وتذكير النظام بالدعم الذي تقدّمه له، وما الذي من الممكن أن يحصل في حال انقطع هذا الدعم، كي يراجع حساباته ويقوم بردة فعل يمنح من خلالها إيران مزيداً من المكاسب.
وأضاف أن نظام الأسد حاول استدراك الموقف، وأرسل حينها وفداً برئاسة رئيس مجلس الوزراء عماد خميس للتوقيع على اتفاقيات تم وصفها بـ”الاستراتيجية” في حين كانت فعلياً “سيطرة مطلقة على مفاصل الاقتصاد”، وتتمثّل بإعطاء إيران مزايا لا متناهية في البلاد.
على طريقة الاحتلال الإنكليزي
ولعلَّ آخر المكاسب التي حاولت إيران تحقيقها في سوريا، هي تلك التي حاولت إيران تحقيقها مؤخّراً، عبر الاستيلاء على شاطئ وادي قنديل في الساحل السوري بمحافظة اللاذقية، بالتواطؤ مع بشار الأسد، غير أن روسيا منعت حصول ذلك.
واستخدمت إيران في محاولتها للاستيلاء على الشاطئ، طرقاً معروفة في عالم الاقتصاد، لكن هذه الطرق تحيلنا فعلياً إلى أساليب استعمارية لا تزال ماثلة، كانت إنكلترا تستخدمها قبل مئات السنين لتوسيع نفوذها، عبر توقيع معاهدات استئجار مدّتها 99 سنة، لتصبح ملكاً للمستأجر وفقاً للقوانين الدولية!
وحسبما ما نشرت مصادر إعلامية سورية، فإن روسيا منعت إيران من التوقيع على اتفاق يقضي بتأجير نظام الأسد لإيران منطقة “وادي قنديل” لمدّة 99 عاماً، وفي الأعراف الدولية فإن استئجار المنطقة لهذه المدّة يعني تملّكها بشكلٍ كامل.
ووفقاً لصفحة “الفساد في اللاذقية” على موقع فيسبوك، فإن إيران رفضت تزويد سوريا بالكهرباء من مولدات السفن الموجودة على الشاطئ السوري إلا بعد أخذ وادي قنديل لتجعله مرفأً لتجارتها.
وتشير مصادر مطلعة على هذا الملف إلى أن روسيا تعتبر الساحل السوري القريب من قاعدة حميميم، إضافة إلى محافظة حمص خطّاً أحمراً بالنسبة لنفوذها في سوريا، حيث بات ينحصر الوجود الإيراني في جنوبي العاصمة دمشق، وريف حلب الجنوبي ومناطق من ريف حماة الشمالي.
وتُعيد هذه الطريقة التي حاولت إيران من خلالها السيطرة على منطقة وادي قنديل إلى الأذهان ما كان يلجأ إليه الانكليز في القرن التاسع عشر، عبر استئجار مناطق في شمالي أفريقيا وآسيا، ولا سيما ما فعلته في عقد “قناة السويس” وميناء البصرة العراقي وغيرها من المعاهدات والاتفاقات التي تبلغ مدتها 99 عاماً.
صدى الشام