دخلت الحرب السورية مرحلة جديدة إثر عملية درع الفرات، فكانت تركيا آخر الجالسين على الطاولة السورية من الأطراف اللاعبة والمؤثرة وذلك بعد فترة طويلة مارست فيها أنقرة دور اللاعب “قبل المؤثر” سعيا لإنشاء “منطقة آمنة” من شأنها حماية حدودها الجنوبية المعرضة للتهديد.
فقد قدمت تركيا الدعم لقوات الجيش السوري الحر ليفرض سيطرته على قرى مدينة الباب لتكون النتيجة هيمنة هذه القوات على شريط إعزاز – جرابلس – الباب بطول 98 كم وباتساع يصل لـ45 كم. رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان المزمع مشاركته في اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة كان قد أشار إلى أن تركيا تملك الآن “خطتها الخاصة” بخصوص الحرب السورية إذ قال: “إنهم يقولون لنا لا تتقدموا أكثر. سوف نتقدم، وسنصل حيث يفترض بنا أن نصل. لا بد لنا من التخلص من تلك الجماعات التي تشكل عنصر تهديد لنا”.
الحقيقة أن أقوال رئيس الجمهورية هذه يمكن اعتبارها جوابا على سؤال إلى أي مدى ستتقدم القوات التركية. تصريحات رئيس الوزراء تفيد بأن القوات التركية ستتقدم إلى النقطة التي يمكنها معها تحقيق الأمن لتركيا الذي يشكل أهم أولوياتها. لا بد من الإشارة إلى أن بعض المتخوفين من القرار يضربون مثالا حالة باكستان التي تخلت عنها الولايات المتحدة في منتصف الطريق. لا شك في أن المعادلة السورية تكتنفها الكثير من المخاطر التي لا بد أن تواجهها وتنظمها وتوجهها أنقرة، وهي في ظل مواجهتها للتهديدات الإرهابية الخاصة بها وفي إطار جدول أعمالها ضد تلك الجماعات تملك موقعًا مناسبًا يمكنها من إدارة الأزمة وإعادة توجيه المخاطر.
أزمة الطائرة الروسية وعدم وفاء الولايات المتحدة الأمريكية بوعدها بعدم السماح لحزب الاتحاد الديمقراطي بالمرور لمنطقة غرب الفرات أظهرت لأنقرة أنه لا طائل من الموقف غير الفاعل. فهم يحاولون إعادة تركيا التي تحمل عبء ثلاث ملايين لاجئ إلى طوقها وحشرها في نطاقها الضيق مستخدمين حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تم “تجميد” عملياته حاليا. العملية التي نفذها داعش في مدينة غازي عينتاب دليل على وصول الإرهاب إلى العتبة ودنوه من الحدود. فتركيا بدلًا من الوقوف موقف المتفرج والاكتفاء بالدور غير الفعال في انتظار الغرق بوحل الإرهاب رجحت وفضلت اتباع سياسة تلعب بموجبها مع الولايات المتحدة وروسيا الدول القوى والأكثر تأثيرا في المنطقة. على كل حال هناك بُعدان حرجان لهذه السياسة.
قلت من قبل إن عملية درع الفرات سرعت مجريات الأحداث في سوريا، لكن لا بد من إضافة التالي إلى هذه الملاحظة: إن مكافحة تركيا لإرهاب داعش وتعاملها مع هذا الكرت أثر على علاقات اللاعبين الأكثر قوة في المنطقة ودفع بهذه العلاقات إلى التوتر. فالأزمة الحاصلة جراء قصف القوات الأمريكية لقوات نظام الأسد في دير الزور رغم وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه كل من روسيا والولايات المتحدة، وموقف بعض جماعات الجيش السوري الحر من القوات الأمريكية الخاصة نتيجة إيوائها لعناصر وحدات حماية الشعب الذين حاولوا التحامي بالعلم الأمريكي أمثلة على هذا التوتر في علاقات ومصالح الدول الكبرى.
ويمكننا توقع المزيد كذلك، فالضغط على داعش في أي مرحلة سيؤدي إلى ضغوطات على اللاعبين الكبار وسيدفع بالعلاقات التي تجمع الأطراف على اختلافها إلى التوتر، بل سيؤدي إلى ظهور أزمات جديدة. وسأعطي مثالين على ذلك: أي محاولة للتخلص من العناصر ذات الميول السلفية خارج داعش أو محاولة دمجها مع المعارضة المعتدلة ستؤدي إلى توتر في العلاقات التركية الأمريكية الروسية. أي تغيير في وضع حزب الله أو غيره من الأحزاب الشيعية سيؤدي إلى نشوب نزاعات بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وروسيا. لكن تركيا مع الأسف هي الدولة الوحيدة التي تشير إلى أن القضية السورية لن تحظى بحل دون جلوس ممثل حقيقي للعرب السنة إلى طاولة المفاوضات. وهذا ما يقودنا إلى أهم النقاط على جدول أعمال الدبلوماسية التركية ألا وهو إنشاء منطقة آمنة تحت سيطرة الجيش السوري الحر.
تتقدم عملية درع الفرات العسكرية بسرعة وفعالية تفوقان التوقعات، وتتمثل الصعوبة الحقيقية في إقناع الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي بأهمية إنشاء المنطقة الآمنة. فكما في قمة العشرين سيسعى أردوغان خلال اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة في نيويورك إلى اقناع القادة الدوليين بأهمية منح المنطقة التي تم تطهيرها من داعش حماية دولية لتكون منطقة آمنة. ليس من الخطأ القول إن نجاح تركيا في دحر داعش غير النظرة الأمريكية لتركيا خصوصا أن اللقاءات هذه المرة ستكون مع أردوغان الذي يملك جيشًا فعالًا ومؤثرًا في الأراضي السورية، فيبدو أن هناك احتمالية كبيرة لإقناع أوباما صاحب وجهة نظر البيروقراطية الأمنية والذي جعل من مواجهة إرهاب داعش على قائمة أولوياته.
برأيي وحسب قناعاتي لن تنجح أي من مفاوضات السلام السورية ما لم يتم إنشاء منطقة آمنة تتمتع بحماية دولية، وما لم يتم فك الحصار على حلب والوصول لتفاهمات بخصوصها. لنراقب معا متى سيدرك اللاعبون على الحلبة السورية هذه الحقيقة ومتى سيقبلون بها.
ترك برس