ما لم تراجع الإدارة الأميركية موقفها من بقاء الرئيس بشار الأسد في الحكم، فلن تنتهي الأزمة السورية، ولن تستقر الأوضاع في الإقليم، ولن تعود لمجلس الأمن الدولي هيبتُه، ولن يسود السلام العالمَ وتأمن الشعوب على مصالحها وتطمئن إلى مصائرها. لقد أضحى واضحاً أن من الأسباب الرئيسَة لاستفحال الأزمة في سورية، على هذا النحو الذي لا نجد له مثيلاً في عالمنا اليوم، تذبذب الموقف الذي اتخذه الرئيس الأميركي باراك أوباما إزاء الحالة في سورية، وتقاعسه عن التصرّف وفق مقتضيات الدستور الأميركي.
فليس هناك إطلاقاً من سبيل لتضع الحرب الأهلية في سورية أوزارها، سوى أن تقف الإدارة الأميركية موقفاً حازماً يحدّ من أطماع روسيا الاتحادية، ويصدّها عن ترسيخ وجودها العسكري والسياسي في هذه الدولة العربية، ويُنهي التدخل الإيراني الطائفي وأتباعه فيها ويتعامل مع بشار الأسد على أنّه مجرم حرب يجب أن يتنحى بعد أن دمر البلاد وقتل أكثر من نصف مليون مواطن سوري، وانتهى به طغيانه واستبداده إلى تهجير أكثر من عشرة ملايين شخص من المواطنين السوريين، إلى خارج بلادهم وتشريدهم داخلها. فما لم يتخذ الرئيس باراك أوباما هذا الموقف الحازم الذي يرقى إلى مستوى الالتزام الأميركي بحماية القوانين الدولية واحترام ميثاق الأمم المتحدة باعتبارها قوةً عظمى ودولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، فلن تغير موسكو من سياستها التي تعتمدها في احتلالها سورية، ولن تتراجع عن تماديها في قتل السوريين بالهجمات الجوية التي يشنها سلاحها الجوي الحربي على المواطنين السوريين، وليس على عناصر من تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، كما تزعم وتدعي، وأن تتوقف إيران عن تدخلاتها المخرّبة فيها.
لقد كشفت صحيفتا “نيويورك تايمز” و “وول ستريت جورنال” الأميركيتان في عدديهما الصادرين يوم الجمعة 17/6/2016، عن أن أكثر من 50 دبلوماسياً من وزارة الخارجية الأميركية، وقعوا مذكرة داخلية تنتقد بحدةٍ استراتيجيةَ إدارة الرئيس أوباما تجاه سورية، مطالبين بتنفيذ ضربات عسكرية ضد قوات بشار الأسد، لوضع حد للانتهاكات المستمرة ولوقف إطلاق النار. وجاء في المذكرة أن سياسة الولايات المتحدة لم تنجح في إيقاف العنف المتواصل في سورية، وهو ما يثبت فشلها حتى الآن. واعترفت المذكرة بأن للعمل العسكري مخاطره، كتوترات أخرى مع روسيا، لكن مقدميها أكدوا في الوقت ذاته أنهم “لا يدفعون نحو طريق يؤدي للهاوية وينتهي بمواجهة عسكرية مع روسيا، وإنما الهدف من الضربات يجب أن يكون إبقاء الأسد تحت السيطرة”. وعلى الرغم من أن الدبلوماسيين الأميركيين الموقعين على هذه المذكرة بدوا وكأنهم في صحوة ضمير، إلا أنهم لم يكونوا في المستوى المطلوب من الحسم والحزم، حيث كانت غاية مطلبهم “الإبقاء على بشار الأسد تحت السيطرة”.
ومما يلاحظه المراقبون تزامُن نشر هذه المذكرة مع ما أعلنه رئيس أركان القوات الجوية الأميركية عن استعداد الطيران الحربي الأميركي لتأمين إنشاء مناطق حظر جوي في سورية. لكنه أشار إلى وجود عوائق، وهي العوائق التي تبرر بها الإدارة الأميركية موقفها المريب من الوضع المتردي في سورية. فهل سيكون لهذه المذكرة مفعولها وتأثيرها فتحفز الرئيس الأميركي باراك أوباما على مراجعة السياسة المتذبذبة التي ينهجها والحسم تجاه بقاء بشار الأسد الذي يمارس القتل والتدمير، وعربدة روسيا في المنطقة وفرضها الأمر الواقع على دولها باعتبار أنها دخلت سورية ولن تخرج منها آجلاً أو عاجلاً؟ أم ستكون صيحة في واد؟
جميع الحسابات السياسية والمؤشرات تؤكد أن سورية التي يعرفها العالم، لم تعد كما كانت، فلقد أصبحت بلداً محتلاً من طرف دولتين التقت مصالحهما الآنية واختلفت أهدافها البعيدة، هما روسيا وإيران، اللتان تلعبان أخطر الأدوار على الأراضي السورية. فهل يدخل ضمن التفاهمات الغامضة بين روسيا والولايات المتحدة، انفراد موسكو بالحالة السورية والاعتراف لها بالهيمنة على هذا البلد، في مقابل تأمين مصالح أميركية في مناطق أخرى؟ منطقُ الأشياء يرجّح هذا الاحتمال، ما دامت المعلومات عن هذه التفاهمات غير متوافرة، وما دامت القوتان العظميان تعملان في الظلام، وهو دأب اللصوص، وهما اليوم لصّا السيادة الوطنية للشعوب والمتآمران على أمن المنطقة وسلامة كياناتها الوطنية.
الحياة