لا أزال أذكر تلك الأمسيات الشتوية عندما كنت وأقراني من أبناء أعمامي نتحولق حول جدّنا ليقصّ علينا قصصاً لبطولات الجيش السّوري في حرب تشرين وحرب الاستنزاف وغيرهما، كان جدّي يتحدّث بفخر لا مثيل له عن بطولاتهم في مجابهة الأعداء عند بحيرة طبريّا على تخوم فلسطين الحبيبة، كثيراً ما كنّا نسمع عن مصانع الرّجال ولم أكن وقتها أستطيع تخيّل كيفية صناعة الرّجال وكلّنا مخلوقات لله لا صناعة فينا لغيره.
فهل تغيّرت المبادئ في صناعة الرّجال !!!!
وهل تحولت المصانع لصناعة الوحوش والمستذئبين !! وعلى استثناء تقسيمات الأيام والشهور القمرية تحول القمر هلالاً في الخامس عشر من آذار عام 2011، لتبدأ معه قصة المستذئبين والوحوش البشرية في زيّ اعتدنا الأمان والطمأنينة بالقرب منه.
بدأت المظاهرات تعجّ بالمطالبين بالحرية والكرامة وخصوصاُ بعد مقتل الطفل ذو الثلاثة عشر عاماً “حمزة الخطيب” في الخامس والعشرين من شهر أيار/مايو من عام 2011 تحت التعذيب بعد أسبوعين من اعتقاله.
لم يستكن شباب سورية الأحرار للظلم ومنهم أحرار “معضمية الشام” تلك البقعة التي تثبت وجودها بجوار مدينة الياسمين وعلى بعد كيلومترات قليلة منها تجاه الغرب، ومن لا يعرف المعضمية أو إن صحّ التعبير المعظمية نسبة للمعظم عيسى بن أيوب ابن أخ القائد صلاح الدين الأيوبي بزيتونها المبارك ورائحة اليانسون تعبق في أراضيها الشّاسعة دليلاً على طيبة أهلها وخصوبة تربتها.
في الحادي والعشرين من شهر آب/أغسطس كان يوماً صيفياً ليس كباقي أيّام الصيف، أصوات القصف ترعد في كلّ مكان وكانت الأرض وجدران البيوت التي لم تدمّر بعد ترتجف أكثر من أجسادنا النحيلة بسبب الجوع والحصار الذي أطبق على ضلوعنا.
خيّم الصّمت الذي يحمل في طيّاته رائحة الموت والبارود، هل سبق وأن شعر أحد بالبرد في شهر آب اللّهاب ّ!!!!! نعم شعرت ببرد لم أشعر به من قبل، ألمٌ فظيع جداً اجتاح أوصالي وأحسست أنّها على وشك أن تتقطّع، رجفة غريبة في حجابي الحاجز وكأن قلبي يتراقص فزعاً وخوفاً فهزت حجابي الحاجز وطأة أقدامه المرتجفة.
وبشهقة الموت لا بشهقة الحياة كسر الصّمت ذاك اندفاع بعض مستذئبي النظام إلى بيتي، يا إلهي ماذا أفعل وما عساي أن أفعل مع الوحوش!! قطع البكاء الحديث وجرى دمع يخط تحته أسىً وحزناً على ذكريات الموت وقهر الحياة، تكمل بعدها “أم محمود” لابدّ لي من طريقة أحفظ بها أبنائي من أنياب هؤلاء المتوحشين، فبدأت أهلّل وأرحب بهم وأدعو لهم بالنّصر المؤزر على الأعداء وفي داخلي أدعو الله أن يعينني وفي قلبي يقين بأن هؤلاء وحدهم هم الأعداء وهم ألدّ الخصام”.
تقول وتمتزج الحروف ببكاء علا على صوت تلك الحروف “أعددت لهم الفطور والشّاي علّي بذلك أبعد أنيابهم عن أطفالي الصغار”.
“طلبوا منّي أن أعدّ لهم المتة، يا إلهي ما هذا المشروب فأنا لم اسمع بهذا الاسم من قبل فخرجت ولم أعد أعي ما يدور حولي من هول الخوف أطلب من الجيران والمحال التجارية المتة وقد تنهدت تنهيدة الناجي بعد أن وجدتها وعدت إليهم وصدى صوت الموت يئز في راسي دون توقّف.”، ” أحضري بطانية بسرعة ” وبسرعة العبد الذي يسعى لتنفيذ أوامر سيده بحثاً عن رضاه علّه يحررّه رحت أنّفذ طلباتهم وأحضرت بطّانية بنيّة اللّون مخططة بخطوطٍ زرقاء عريضة اعتاد طارق الصغير أن يلتحف بها عندما ينام، ” روحي غطي ولادك فيها ” قالها و الابتسامات تعلو وجه أولئك الوحوش كأنّهم يشاهدون مشهداّ من مقالب “زياد سحتوت” في برنامجه.
دخلت الغرفة وكأنّي أحمل على كاهلي كلّ هموم الحياة وكأن خوف العالم بأسره زحف إلى قلبي الذي كاد يخرج من سرعة خفقاته وعدم إستقرارها “توسّعت حدقتا عيناي ولم أر إلاّ بقعاً حمراء تعانق أطفالي وشفافهم بدت عليها زرقة برد الصيف القارص، احتضنتهم وشممت رائحتهم العطرة ورحت أصرخ في وجه الموت ووحوش الموت وجذاريه، يأبى الأوكسجين أن ينفذ إلى رئتاي وتأبى عيناي إلاّ أن تستقرا على اللون الأبيض حيث لا أستطيع رؤية أيّ شيء حولي حتّى خارت قواي وفقدت الوعي” .. “محمود ، عمار ، مفيد وطارق ذبحوا بدم بارد ودون أي رحمة وبلا ذنب سوى أنّهم أبناء معضّميّة الشام الأبية.
وبعيداً في الشّمال وتحديداً في إحدى قرى ريف إدلب الغربي وفي الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير تروي الحاجّة أم أحمد قصتها عندما اقتحم عناصر وشبيحة النّظام قريتها المؤلفة من خمسة بيوت لا غير.
“نقطن هنا أنا و أخوتي الأربعة حيث بنينا بيوتنا في هذه الأرض منذ ما يقارب العشرين عاماُ أو أكثر، عملنا في الزراعة ورعي الأغنام وأدخلنا أولادنا مدرسة في القرية المجاورة لنا وعليهم أن يسيروا قرابة الثلاثة كيلومترات ذهاباً ونفسها إياباً كلّ يوم إلاّ أنّهم كانوا من الأوائل في صفوفهم “.
“سجّل أحمد ابني في قسم البحوث العلمية وأنهى سنته الأولى، وعامر ابن أخي قبل في كلية الهندسة المدنية، عبد الكريم في قسم التاريخ وفلان وفلان”، قطع البكاء حديثها وبجهد جهيد رفعت يدها التي أرهقها الظلم مشيرة إلى مكان ليس ببعيد عن البيوت “هناك كان أحمد وعامر والبقية يرعون الغنم على مشارف البيوت عندما أتى وحوش النظام وقتلوهم”.
“الله ريته كان سم” بهذه العبارة أردفت أم أحمد “اقتحم عناصر النظام القرية وطلبوا مني أن أعدّ لهم الطعام و راحوا يتشرّطون أنهم يريدون السمن العربي واللبن المصفّى وأكلوا قرابة الخمسة عشرة ربطة خبز وبعد أن أنهوا طعامهم قال أحدهم ” يا حجة ما عندك ولاد “!! خفت وارتعدت فرائصي من سؤاله وأجبته بصوت متقطّع “نعم عندي أولاد يرعون الغنم بالقرب من هنا”، “يا حجة روحي شوفي ولادك يمكن المسلحين قتلوهم” بهذه الجملة أوقف الدم في شراييني وهمت على وجهي أبحث عن ضالتي في المكان، وجدتهم ككومة فوق بعضهم البعض وكأنّ القاتل تلذذ ببناء تلّ من حقد وظلم فاق كل حدود القهر والظلم.
أعانني الله على تحمّل الحياة بعد أحمد ولكنّ أخي أبو عامر فقد جميع أولادها ولم يتحمّل ذلك المنظر ففقد شيئاُ من عقله وإلى الآن يذهب إلى المكان يخاطب أبناءه ويطلب منهم العودة، و بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإنّ أكثر من “498.593” راحوا ضحية الحرب في سوريا وقصف النظام ولا تزال آلة القتل تدور دون أن يحاول أحد إيقافها.
محمد المعري
المركز الصحفي السوري