تسعى روسيا، في ما يبدو، إلى تنصيب نفسها حامياً امبراطوريّاً للمسيحيين في المشرق، نازعة هذه الصّفة عن أداتها المتمثّلة بنظام الأسد وحلفائه الطائفيّين. وتحاول، بالتالي، احتكار قضيّة الأقليّات كورقة من أوراق تفاوضها مع الغرب، وهذا ما يمكن استنتاجه من شروطها المقترحة لحل القضيّة السوريّة، وما يتعلق فيها بـ”حماية الأقليّات”.
والحال أنّ انخراط روسيا في مسألة الأقليّات هذه يبدو أشبه بهديّة سهلة ومجّانيّة أكثر من كونه تحقيقاً لجهود أو لسعي دؤوب. ذاك أنّ أحد الأسباب التي رَمَت بهذه المسألة في اليد الروسيةّ كان ترفّع المعارضة السورية ومعظم المثقفين والدول المؤيّدة للثورة عن البحث فيها، أو اعتبارها شأناً وطنيّاً ذا أولويّة وإشكاليّة من إشكاليّات الحلول السياسيّة المرتقبة. ولم يكن خطاب الشماتة والكراهيّة الذي ظهر في تلك الأوساط عندما اقتربت المعارضة المسلّحة من مناطق العلوييّن في نيسان (إبريل) الماضي أوّل ولا آخر الدلالات على هذا الأمر.
غير أنّ إهمال المعارضة وتهرّبها من مواجهة هــذه المسألة لم يمنعا الوصول الى الامتحان الصعب الذي فشلت فيه اليوم. وهي ولئن شابهت الوطنيين السوريين الأوائل في إهمالهم لمسألة الأقليات خلال ســـنوات الانتداب الفرنسي، لم تمتلك وعيهم السياسي ولا أداءهم، بل كانت أكثر غروراً وأنانيّة. فقد نجح الآباء المؤسّسون في اجتياز هذا الاختبار في 1936 أثـناء مفاوضاتهم الشّاقة مع الفرنسيين، وذلك بفضل اتّباع سياسية التقرّب من الأقليّات وطمأنتهم. ففي الوقت الذي كان الوفد السوري يفاوض في باريس وكان المسيحيون جزءاً أساسيّاً وفاعلاً فيه، كان الجزء المتبقّي من الوطنيّين في دمشق يباشرون حملة إعلاميّة مكثّفة، ظهرت في سياقها رسالة هاشم الأتاسي الموجّهة إلى العلويّين، ومن ثمّ مسرحيّة العواطف والدموع التي قادها فخري البارودي أثناء اصطحابه لوفد كبير من دمشق إلى مقر البطريركيّة المارونيّة في لبنان إضافة إلى غيرها من الأحداث.
إلا أنّ الوطنيين الأوائل لم يكونوا مؤمنين حقيقة بأولويّة مسألة الأقليّات كما تبيّن لاحقاً، ولنا في مصير سلمان المرشد وإدمون ربّاط دلالة على ذلك، وهما من رجالات الأقليّات الذين تحالفوا مع الوطنيين. ففيما تمّ إعدام الأوّل ظُلماً غداة الجلاء في 1947، عافَ الثاني السياسة وترك سورية إلى لبنان. وهذا في عمومه ما أدّى لاحقاً إلى الخراب الذي عرفته سورية بداية من الانقلابات العسكريّة التي حملت الأقليّات المقهورة إلى السلطة، وصولاً إلى حُكم البعث وعائلة الأسد. فالمرحلة التي وصلت إليها الثورة والشعب اليوم تقتضي أن يكُفّ المستهزؤون بمصطلح “طمأنة الأقليّات” عن استهزائهم وأن يتواضعوا كثيراً ويبادروا، تجنّباً لإعادة تدوير الخراب السّوري في مقبل الأيّام.
الحياة