أزمة اللاجئين تتفاقم.. أي قيم لإنسانية العصر الجديد

  • مع حلول فصل الشتاء تدخل أزمة اللاجئين فصلا جديدا من القلق، حيث ترتفع نسبة الوفيات في صفوف المهاجرين غير الشرعيين وفي صفوف اللاجئين المنتشرين على حدود الدول الأوروبية، ضمن أزمة عدّت الأكبر في تاريخ البشرية وتجاوزت بمراحل أزمة اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية، لتضع العالم أمام أسئلة أخلاقية ومادية وسياسية عديدة، وتضع المواثيق والمعاهدات الدولية أمام مساءلة عن مدى تطابقها مع الواقع، الأمر الذي بحثت في شأنه مجلة “ذوات” الإلكترونية الشهرية، في عددها الثلاثين (شهر نوفمبر) المخصص لموضوع اللاجئين العرب، ولما تعرفه هذه القضية من جدل واسع على المستوى السياسي والقانوني والاجتماعي، خاصة مع تزايد أفواج اللاجئين الفارين إلى أوروبا، بحثا عن ملاذ آمن.
  • تعرف قضية اللجوء في السنوات الأخيرة جدلا سياسيا واجتماعيا وقانونيا كبيرا، وذلك نظرا لتجاوز عدد اللاجئين في العالم 65 مليون إنسان، يعيش معظمهم في دول ضعيفة اقتصاديا، حسب تقرير الأمم المتحدة. وبينما كانت الدول الغنية تستضيف أكثر من 30 بالمئة من اللاجئين؛ فإنها لا تستضيف حاليا أكثر من 13 بالمئة منهم.

    وتكشف هذه الأرقام عن أن مسألة اللجوء باتت كارثة إنسانية عالمية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ناهيك عن مشكلة النازحين الذين آل وضع التخفيف عن معاناتهم إلى التصفيق الدولي لبضع ساعات من إيقاف القتال من أجل إدخال المساعدات.

    ما بين ثنائية الموت والهروب ثمة خيارات قليلة ومؤلمة، ومستقبل قسري تتقلص فيه مساحات الحرية الإنسانية وتُنتهك. ويتلمس مسلوبو الإرادة تجديد حياتهم بالحد الأدنى لتعريف الوجود والذات، وتتيه القضية الإنسانية في متاهات السياسة والاقتصاد والخوف من الآخر.

    هنا نحدد تعريف اللاجئ كما هو في الواقع كإنسان هارب من أوضاع مأساوية ويطمح إلى إعادة بناء حياته، ويقايض ما تبقى من كرامته مقابل الحصول على حياة جديدة، ويقايض روابطه الاجتماعية مقابل الحصول على هوية جديدة.

    رحلة اللجوء ليست خيارا، وإنما هي نتيجة سلسلة من الإكراهات والصدمات، بداية من مآسي الحرب نحو النزوح، ثم اللجوء من خلال طرق محفوفة بالمخاطر والاستغلال، وغالبا ما يُمنع اللاجئ من الدخول إلى البلدان الأخرى، أو يُرفض طلب لجوئه، ناهيك عن الإجراءات التي تتطلب وقتا طويلا والظروف السيئة التي يعيشون فيها، ولا سيما في بلدان اللجوء الضعيفة اقتصاديا. وإن تحصل على البعض من الحقوق والعمل، فإنه يعاني من مشكلة الاندماج والتأقلم مع البيئة الجديدة.

    من الناحية القانونية والأخلاقية، نحن إزاء مشكلة حقيقية تتعلق بقضية اللاجئين وكيفية التعاطي معها. مشكلة تطرح أسئلة صعبة على المنظومة الأخلاقية التي بنيت عليها صروح الحضارة الحديثة، وعلى نجاعة القانون الدولي ودور المؤسسات والمنظمات العالمية المعنية بهذا الموضوع.

    وعلى الرغم من وجود معاهدات ومواثيق دولية؛ كاتفاقية جنيف لعام 1949 ومعاهدة الأمم المتحدة (1951) والبرتوكولين الملحقين بها الصادرين عامي 1967 و1977، فإن الواقع الفعلي لا ينسجم إطلاقا مع مضمون هذه المعاهدات والوثائق الدولية، وعلى رأسها وثيقة حقوق الإنسان.

    لقد قام الغرب ببناء منظومة أخلاقية وضبطها بتشريعات وقوانين ومواثيق دولية وأهمها في ما يتعلق بقضية ميثاق حقوق الإنسان، وما تمخض عنه من معاهدات ومواثيق تتعلق باللاجئين، لكنها لم تثبت نجاعتها ومصداقيتها في الواقع، ولا توفر آليات ضمان وحماية لحقوق الإنسان تكون عادلة وموضوعية، وإنما هذه الآليات -كمجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة والمفوضية العليا للاجئين- كانت فاعلة في إطار مصالح الدول الكبرى وفلسفتها القائمة على مركزية الإنسان الأوروبي.

    قضية سياسية

    بالنظر إلى الصورة الشاملة لقضية اللاجئين بعيدا عن التفاصيل الدقيقة والإشكالات القانونية والاقتصادية، نجد أنها قضية من ضمن القضايا السياسية التي يتم التعاطي معها بناء على المصالح والمساومات والاستراتيجيات السياسية، ولا نجد للبعد الإنساني وجودا يُذكر كهدف أعلى، إلا على أوراق الاتفاقيات والمعاهدات.

    ومن الملاحظ أن المسألة برمتها ابتداء من نشوب النزاعات والصراعات التي يدفع ثمنها الإنسان هروبا أو موتا، وانتهاء بحل هذه النزاعات والإشكالات المتعلقة بها من جرائم حرب ونزوح ولجوء واعتقال؛ يتمّ التعاطي معها بحسابات واعتبارات سياسية.

    ولا تفلح المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية بالوضع الإنساني في اتخاذ إجراءات حقيقية للحد من هذه المآسي، إلا عندما يكون هناك توافق سياسي بين الدول الكبرى والدول المنخرطة في الأزمة.

    ويكفي هنا أن نعرف أن خمس دول فقط -الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن- من أصل 230 دولة في العالم بيدها تقرير مصير أيّ أزمة حتى في الجوانب الإنسانية، سواء بالتوافق مع باقي الدول الخمس أو منفردة بتحالفات خارجية.

    من زاوية أخرى، نجد أن أكبر اقتصاديات العالم، وتلك البلدان التي تعلن أنها المدافعة والمؤسسة لحقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، لم تستقبل من اللاجئين السوريين (مثلا) ما استقبلته واحدة من أصغر الدول العربية (الأردن أو لبنان).

    ويمكن أن ننظر إلى هذه المفارقة من عدة زوايا، وقد يبرر دائما أن دول الجوار في مناطق الصراعات والنزاع عادة ما تتحمل تدفق الأعداد الكبيرة من اللاجئين أكثر من غيرها.

    هناك تحليلات كثيرة لأسباب التطرف في العالم العربي ولكن في معظمها لا تنظر إلى أسباب تشكل البيئات الحاضنة

    ولكن كيف نبرر المساومة السياسية اللاأخلاقية في ملف اللاجئين مع تركيا للحد أو إعادة اللاجئين مقابل حصولها على بعض الامتيازات التي تؤهلها للدخول في الاتحاد الأوروبي؟ أو التبرير الاقتصادي في ألمانيا لقبول اللاجئين من فئات عمرية معينة؟ أو الإجراءات الصارمة في الحد أو عدم تسهيل عبور اللاجئين واحتجازهم في مخيمات مزرية على الحدود أو في مجمّعات اللجوء بانتظار الدخول؟ هذا على المستوى السياسي والحكومي والقانوني، أما على المستوى الشعبي، فحالة التوتر والقلق والرفض في ازدياد مستمر، والتغذية الإعلامية لهذا الموقف لا تهدأ. ونلاحظ في الآونة الأخيرة ونتيجة هذا الضغط؛ صعود نجم الأحزاب اليمينية المتشددة في عدد من بلدان أوروبا، مثل فرنسا وهولندا وسويسرا والنمسا وبلدان شرق أوروبا، كما أن بعض الأحزاب اليسارية اضطرت لوضع سلسلة من القوانين التي تحد من تدفق اللاجئين خوفا من خسارتها في انتخابات مقبلة، أو إذعانا للضغوط الشعبية قد يعكس قلقا وتوترا رسميا وشعبيا.

    قد يكون الخوف من وصول المتطرفين والقيام بأعمال عنيفة مبررا لهذا القلق والتوتر، ولكن هذا لا يحررهم من المسؤولية الأخلاقية، فقد حدثت مثل هذه الأعمال العنيفة في الأردن ولبنان وتركيا.

    وهذا يكشف عن تناقض كبير بين ما يدعيه الغرب من قيم مناصرة لكرامة اللاجئ وحقوقه الطبيعية وحريته، وبين السلوك الحقيقي الرسمي والشعبي المشبع بسيكولوجيا الخوف والاعتبارات النفعية السياسية والاقتصادية.

    النموذج الغربي

    العالم بالنسبة إلى اللاجئ ظالم مظلم وصعب الاحتمال، ولا توجد حلول عملية وقانونية وإنسانية حقيقية بعدُ لمشكلتهم، والتعامل معها أشبه بالتعامل مع الأمراض السارية التي ينبغي احتواؤها وعزلها و”التخفيف” من معاناة أصحابها، وهذا التعامل يضع ألف إشارة استفهام وتعجب أمام المنظومة الأخلاقية والقانونية العالمية في تعاملها مع قضية تمسّ جوهر حقوق الإنسان.

    أما حصيلة ذلك كله على المستوى الوجداني والعقلي للإنسان العربي، فنجد أن كل الممارسات الغربية مع العالم العربي على المستوى السياسي والإنساني والعسكري التي ترتكز على المنفعة البحتة، والمصالح غير المشتركة والتمييز واللامبالاة، لا تشجع على الإطلاق التجاوب مع النموذج الغربي الذي تدعو إليه العولمة، فما الذي يدفع الإنسان العربي إلى قبول هذا النموذج بديمقراطيته وحريته “الخاصة”، وهو الذي عمق معاناته، إن لم يتسبب بها في الكثير من الأحيان؟

    ويمكننا أن نفهم بكل بساطة سبب تنامي ظواهر التطرف والتشدد والتقوقع الأيديولوجي، التي يقدم لها الفشل الغربي في التعامل مع المشكلات الإنسانية والحقوق الطبيعية للإنسان العربي فيما إذا ركب على فشل السياسات ونماذج الحكم ومسارات التنمية في معظم الدول العربية؛ حجج قوية للجماعات المتطرفة وجاذبة للشباب، مما يؤدي إلى انفجارهم وتفجير أنفسهم في مجتمعاتهم وفي مجتمعات الآخرين.

    هناك تحليلات كثيرة لأسباب التطرف في العالم العربي والإسلامي، ولكن في معظمها لا تنظر إلى أسباب تشكل البيئات الحاضنة لها؛ فتعلّقه إما على الدين وإما الاقتصاد وإما الإكراهات السلطوية.

    ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير، فهناك حالة من الغضب والسخط على التهميش والاستغلال العالمي والممارسات القهرية أو اللامبالية التي يتعرض لها الضعفاء، حالة تنتفخ يوما بعد يوم، وتغذيها السياسة والإعلام والاقتصاد.

    ومجتمعاتنا وخاصة الشباب، في حالة صدمة ثقافية وأخلاقية ساخطة معاكسة تماما للصدمة الانبهارية التي تعرضنا لها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أمام النموذج الغربي.

    من البديهي أن الصراعات والحروب تتسبب في الكراهية والعنف، ولكن من العجيب أن تصبح طريقة التعاطي مع القضايا التي تتسبب فيها الصراعات، كمشكلة اللجوء مثلا، عاملا رئيسيا لخلق الكراهية والإحباط واليأس والسخط ومشاعر الانتقام، وبالتالي تدوير عجلة العنف والصراع بأدوات وهيئات جديدة منفلتة يصعب السيطرة عليها.

    أيا يكن الثمن الذي ستدفعه الدول مقابل حل إنساني وعادل يحفظ كرامة اللاجئ، هو أقل بكثير جدّا، ولا يقارن بالثمن الذي تدفعه الآن وستدفعه لاحقا بسبب التعاطي السياسي النفعي الأخرق مع ما يقارب الواحد بالمئة من عدد سكان العالم، ناهيك عمّن يتعاطف أو يشعر بهم أو يعيش احتمال أن يكون منهم.

    العرب

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

 

المقالات ذات الصلة

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

ابحثهنا



Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist