حامد الكيلاني – العرب
اختفت العديد من المهن التي كانت البعض من حياتنا اليومية، ومنها تصليح مواد المنزل البسيطة كالأثاث القديم أو حتى إبريق الشاي المكسور أو خياطة صحون الطعام المحطمة، وربما نتعجب في حاضرنا من تغيير المقتنيات باستمرار لأسباب تتعلق بمفاهيم الجمال والتجديد أو التحديث لمقاومة الملل؛ يرتبط ذلك بنوع المكان وطبيعة العمل وما طرأ على وسائل الإنتاج.
أحياناً نتفاجأ من عدم اندثار مثل تلك المهن في المدن المتقدمة، ولا نعني بها ترميم اللوحات الفنية أو تصليح التحف الثمينة، إنما الأشياء البسيطة بما تحمله في طياتها من ذاكرة تحاول الصمود لوقت أطول كميراث لأشخاص وعلاقات وعوائل أو على نطاق أوسع، ومقابل التصليح تدفع أموالا أكثر بكثير من سعر الأصل، والغاية دائما في كيفية إعادة ما نحبه إلى سابق عهده ومكانته في نفوسنا.
لكن ما بين التصليح والتصحيح والإصلاح من يُعيد بيتنا المهدم إلى ما كان عليه؟ وماذا عن الأبرياء الذين قُتلوا، وماذا عن نسخة المأساة المكررة بالملايين في مخيمات النازحين والمهجّرين؛ كيف سيتم تصليح هذا الكم من الانكسار في النفوس؟
لا يمكن تأهيل التحفة التي نسميها الوطن وهي تحت خط الانسحاق والتهشيم المتعمّد بمجرد استحضار تقنيات الانتخابات أو الإصرار بتوظيف الانتصار على تنظيم الدولة لافتتاح مشروع دولة الميليشيات المقبلة في العراق، أو تأهيل الحاكم في سوريا لأن إرادة دولة كبرى كروسيا أو دولة إقليمية كإيران وجدتا فيه ما يستحق الإبقاء عليه رغم انتهاء صلاحيته منذ سنوات بعيدة.
أي نظام حكم سوي أو حاكم فيه بقايا انتماء إلى شعبه لا يمكن أن يرتضي استمراره في السلطة جالساً على تلال من الجماجم، إلا في حالة واحدة لا غيرها يمكن إيجازها باختصار سلطته في ديمومة حمايته لعدم وجود مفر سوى كرسي الحكم.
ذلك ما يفسر ممارسات ديمقراطية الأحزاب الطائفية في العراق، أو انتهاكات النظام الحاكم في سوريا وكلاهما بمرجعية الاحتلال الإيراني ومناهجه الموحدة في سياسة التخريب والإبادة، وشواهدها في التغيير الديموغرافي وأيضاً في استغلال الطرف الآخر المحسوب على النظام بمرجعيته الطائفية التي أصبحت فاصلة عملية نتيجة لتطبيقاتها على الأرض، وشحذ حالة اللاتراجع بتقرير توقّع الانتقام المسبق المقابل عند انهيار النظام.
مع بداية ثورة الشعب السوري السلمية ارتفعت بعض الأصوات في الإعلام مطالبة، ودون أي اعتبار لمكانتها ولو الشخصية، بسحق التظاهرات بقوة السلاح وعدم الرأفة حتى بالنساء والأطفال وحجّتهم إنهم ابتكروا لأول مرة طاقة نقد النظام الحاكم.
ما آلت إليه الأوضاع في سوريا وفي الغوطة الشرقية هو ما خطط له في ذهن وعقل المخربين الحقيقيين الذين ارتسمت أمامهم الأهداف ومبرّرات العنف وطرق الاحتماء بمظلة المشاريع الدولية، وأهمها ضمان مصادرة أي قرار دولي رادع يصدر عن مجلس الأمن.
الرهان على الكتلة الطائفية ومعهم قطيع الخدمة والصمت والخوف لن يجدي وإن بدا في فترة ما وسيلة قمع تضمن تمدد الإرهاب العقائدي الإيراني
القرار 2401 بتعديلاته الروسية ومشاوراته الإيرانية خلف الكواليس جاء بعد تأجيل متكرر في وقت كان فيه الجحيم على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس يتخذ من الغوطة الشرقية مسرحاً للفرجة يحترق على خشبته الأبرياء دون أن تنجدهم أي قوة للتدخل السياسي أو العسكري السريع.
النظم الديمقراطية في العالم من بعض تجلياتها الفكرية إنقاذ الحاكم من مخاطر السلطة، وذلك بإعادة إنتاجه إنسانيا كجزء من الشعب مع أفراد أسرته وطاقمه المقرب وعدم التفريط به أو بهم في معادلة “أن أكون حاكما أو لا أكون”.
الرهان على الكتلة الطائفية ومعهم قطيع الخدمة والصمت والخوف لن يجدي وإن بدا في فترة ما وسيلة قمع تضمن تمدد الإرهاب العقائدي الإيراني وإطالة أمد البقاء للحاكم السوري أو سلطة عملائهم في العراق. التناقضات في حسابات المحاصصة السكانية الطائفية وحساباتها وفق الرؤية الخاصة لنظام الملالي يتم التعاطي معها لخلق موازين التفاضل العددي في سياسة الرعب والتهجير وفي الاستبدال السكاني وإحلال جماعات أخرى بنزعات قصيرة النظر تضع كل البيض في سلة أنظمة آيلة للسقوط، ولو بعد حين لعدم امتلاكها جينات مواكبة العالم المتمدن وقدرة التعايش بسلام مع الأسرة الدولية.
برامج ترويض الشعوب في مهزلة السيرك الإيراني تحت مظلة مهرج واحد مازال يعتقد أن الشعوب زائلة وبالإمكان تعويضها بأحزابه وسياساته أو مقايضتها بأقل العطاءات برفقة تنظيم الدولة الذي أدى واجباته كصديق في تدمير وتآكل النسيج المجتمعي وما اجتهدت عليه تضحيات حقب زمنية لجعله حقيقة ماثلة للعيان في التعايش والإيخاء. النظام الحاكم في سوريا وبرعاية ومشاركة روسية وإيرانية يكرر طباعة المنهج المكرر في الإبادة السكانية لأغراض سياسية وطائفية باعتماده تعميم الإرهاب ضد المناطق والأحياء المطلوب تهجيرها.
الهدف هو حزام دمشق، كما هو حزام بغداد، في إستراتيجية تطويق تؤتي ثمارها على المدى البعيد في تطويع الإسكان بمناطق بعيدة بالترحيل القسري، أو بالقبول بمناطق آمنة محتملة في المستقبل، وتسليم من تبقى على قيد الحياة بالأمر الواقع بديلا عن الموت.
بعض المدن لا تتجاهل حاجتها إلى إعادة “تصليح” ما تهدم منها خارج دعوات مزايدات الإعمار المسيّسة، لكنها بكل تأكيد ستحتاج إلى زمن ليس بالقصير لتلتفت بعدها إلى “إصلاح” سياسي قد يأتي لها بالأمل والاستقرار أو لا يأتي وذلك هو الأرجح.
الإرهاب في واقعنا لا ينتهي، والميليشيات تروّج مجدداً له بما يشبه نداء استغاثة لتنشيطه، ذلك لأنها لم تنته من مشروعها، إذ كلما أخفقت أخرجت لنا إرهابا على مقاساتها وضرورات مرشدها في قمع الشعوب الإيرانية التي جرّبت عنصرية نظام الولي الفقيه وهوس هيمنته على المنطقة الذي أدى إلى تداعيات الانتفاضة وزحزحة الكتل السكانية المتباينة في نسيجها بما عبّرت عنه من اجتياز حاجز الخوف أيضا.
شعب العراق تغيرت ملامحه وفقد كثيرا من سماته، وكذلك شعب سوريا ومعهم شعوب أخرى تحت خط الإرهاب الإيراني، ولا نستثني منهم الشعوب الإيرانية التي لا يمكنها إصلاح ذات البين بينها وبين حكامها وأنظمتها.
الأمل أن لدينا ما هو مشترك من أوطان نحب ونسعى أن نعيدها رغم الحطام والانكسار إلى سابق عهد تحفتها الإنسانية.