يسعى المتقاعدون من وظائفهم في مختلف بلاد العالم للترويح عن أنفسهم، بعد التقاعد وتحقيق الاستقرار ويبدأ الكثيرون منهم في رحلات سياحية إلى المعالم المشهورة في العالم ولكن كما علّمتنا الحياة، فلكلّ قاعدة شواذ.
مع اندلاع الثورة السورية تغيرت كلّ المفاهيم وغيرت كلّ القواعد في حياة السوريين، بعد أن صبّ النّظام السوري جام غضبه على المنطقة برمّتها وكان ردّه قاسياً جداً، فلم يرحم بشراً ولا حجراً.
هناك بين تزاحم المساكن في مخيم “دير حسّان” الذي يضمّ قرابة الخمسمائة خيمة استضافنا العم “أبو محمّد” في خيمته لاحتساء كأس من الشّاي بخجل واستحياء بديا واضحين في حروف كلماته التي تقطّعت أوصالها بين الإصرار على الدّعوة أو العدول عنها خوفاً من مكان قد لا يكون لائقاً بدعوة وحفاوة.
“أبو محمد” رجل خمسيني من قرى ريف ادلب الجنوبي قاده القدر ليكون أحد قاطني مخيم “دير حسان” في شمال ادلب.
أرسل العم “أبو محمّد” أفراد اسرته إلى خيمة ابنه صارخاً بحروف خجولة “روحو للخيمة التانية وعملولنا بريق شاي”
ارتسمت على وجهه ابتسامة خجولة من إصراره على أن يكون قبطان السفينة وسيد الموقف رغم كلّ الظروف.
خيمة مرتبة ومهندمة كأنّ قاطنها قائد فيلق يحب الانضباط بكل تفاصيل الحياة، كسر انضباط خيمة العم “أبو محمد” كتاباً مفتوحاً ومقلوباً على الوسادة دلّ على أنّ صاحب هذا المكان وسيّده مثقفاً يحب القراءة والاطلاع.
“لا تؤاخذوني فكنت أقرأ كتاباً يدعى (نظام الزرع المباشر) وهو يتحدّث عن طريقة الزراعة المباشرة دون اللجوء إلى الحرث العميق للتربة، وهو يفيد في زراعة الحبوب في الأرض البور وهو نظام مفيد لمنع تبخر المياه من الأراضي الجافة”
طلبت منه الحديث عن حياته فردّ بحرقة قلب بعد أن مسح جبينه قائلاً متعجباً “وهل ترى في هذه الحياة ما يستحق السرد يا بني!!!”
تنهّد بعدها وعدّل من جلسته وكأنه قبطان طائرة سيحلق بها للعودة بالذكريات “درست وأخي وكان الدارسون قلائل جداً في قريتنا.
“خرجت من جامعة حلب كلية الهندسة الزراعية في السابع عشر من حزيران عام 1982 ، وأكملت بعدها الدبلوم في” وقاية النبات” وقبيل الثورة بسنوات كنت قد أنهيت دراسة الماجستير في نفس الاختصاص أيضاً”
وبابتسامة خفيفة تظهر نوعاً من الاستهزاء بما آلت إليه الحال قال العم “لم أوقف أحلامي يوماً وكنت دائماً أحلم كشاب لا يزال في ريعان الشباب فكانت خطتي أن أكمل الدكتوراه في الزراعة لكن أحوالنا تغيرت والحال تغير”
وكروائيّ متمرّس اعتاد وصف التفاصيل بدقّة ومثل مهندس معماريّ يشير بيديه التي بدت عليها تجاعيد الزمن وقشعريرة الأيام يصف العم” ابو محمد” بيته “تدخل من الباب الخارجي فتستقبلك أصوات العصافير التي اعتادت المكوث على أغصان اشجار زرعتها قبضتاي هاتين فعلى يمين الممر بعيدعن الباب ستجد شجرتا ليمون تجاورهما شجرتا برتقال وفي الطرف الآخر ستجد بعض شجيرات الرمان وتنتصب بينهم شجرة غار أبت الرحيل معي فالغار معروف بالثبات”
هوّن عليك يا عم.
أخذ بعدها نفساُ عميقا ليحبس صراخ الآهات داخله وأكمل ” حفرت بئراً للماء في بيتي فماء البئر عذبة”
“البيت طابقين راسخين على يمين الشارع الرئيسي، ثلاث غرف ومطبخ جهزته من السيراميك والرخام في الطابق السفلي خلف محلين كنت قد رتبتهما ليكونا صيدليتي الزراعية، تصعد بعدها للطابق الثاني فتجد في الواجهة غرفة أعددتها لاستقبال الضيوف فكانت ملعباً بطول 12 متراً وعرض 8 أمتار فرشته بالمد العربي الفاخر تتعالى فيه ضحكات الضيوف في الليالي الصيفية والمساءات الشتوية.”
وبشيء من الفخر الذي لمع في عيني” أبا محمد” يقول “كنت من أوائل الذين ركبوا الساتلايت في القرية وكنت أول من جلب الغسالة الأوتوماتيكية أيضاً ناهيك عن مكيف الغاز في غرفة الضيوف فقد كانت الحال ميسورة الحمد لله”.
“عملت رئيساً لموقع الحراج وعملت أيضاً رئيساً للوحدة الإرشادية وعملت مديراً للوحدة الداعمة بالإضافة للصيدلية الزراعية لدي”
بدمعة تختلف اتجاهاتها انحداراً وفق تجاعيد وجهه التي خطّها الزمن وشعر لحيته البيضاء قهراً وشيبة يحكي عن التهجير وحنين الروح “بعد اندلاع الثورة تهجّرنا من قريتنا عدّة مرات كانت أولاها بعد قصف طائرات ومدفعية النظام للقرية واستشهاد زوجتي على اثرها بعد أصابتها بشظية أودت بحياتها وآخرها ثاني أيّام عيد الأضحى وكنت على وشك أن اضحي لزوجتي التي فقدتها وروحي معاً”
“يقولون كان اللّه في عون من فقد حبيباً، فكيف بمن فقد حبيبين يا بني الزوجة والدّار”
وعن أمنيته يقول “لا يزال بصيص الأمل بالعودة للديار غير بعيد، فأعانق ثراها ويعانقني التراب وأنام على ثرى قريتي ورائحة زوجتي تعبق في المكان”
وليس ببعيد عن خيمة العم” أبو محمّد” يتحدّث “عادل” الشاب العشريني عمراً والخمسيني قهراً والحرقة تعلو صوته “توفّيت أمي هنا في المخيم ودفنّاها في مكان قريب لقريتنا التي يحتلها أنجاس الأرض و بأقدامهم قد دنّسوا ترابها الطّاهر وكان كل حلم أمي أن تعود لبيتها في القرية وتدفن في ثراها”
وصل عدد المخيمات في الشمال السوري قرابة” 794″ مخيم يقطنها ملايين النّاس وبحسب إحصاءات وحدة الدعم فقرابة الــ 20% من عدد السكان هم فوق سن الــــ (40). فكم أبو محمّد وكم أم عادل في تلك الخيام الهزيلة كل أحلامهم أن يدفنوا في ثرى قراهم وليس في مكان بعيد !!!!!
بقلم محمد المعري/ المركز الصحفي السوري