بالقرب من مكان تفوح منه رائحة الدخان الكريهة والحشرات الطائرة والزاحفة، رأيت هيكل بشري يتحرك بين أكياس القمامة، لم استطيع الاقتراب منه أكثر، فضولي دفعني أن انتظره حتى يقترب مني، لعدم وجود طريق إلا بجواري.
طفل لم يبلغ العاشرة من عمره ولكن ملامحه توحي أنه ابن ٩٠ عاماً تجاعيد الوجه وتشقق جلد اليدين، زاد فضولي لأسأله من أنت؟.
أجاب نهاد.
من أين أنت؟
من مدينة إدلب.
ماذا تفعل هنا؟
أجمع النايلون.
لماذا؟
يصمت وتنهار دموعه.
أقف حائرة من هول الموقف، اتجاهل ثيابه المتسخة وما يحمل في الأكياس والرائحة الكريهة.
أمسح دموعه واسأله لما تبكي ودموعي تسبق كلماتي.
هنا مات أخي ورفاقي.
كيف ولماذا ماتوا!!؟
ماتوا هناك بالضبط ويشير بيده الى زاوية تعج بجبال من النفايات الكثيفة, كل تلك الجبال انهالت فوقهم لتكون نهايتهم خنقاً تحت أكوام القمامة اللعينة. ويذهب بناظره بعيداً إلى تلك اللحظات المفجعة.
تأسرني نظرات نهاد المنكسرة لتوان.
هل كنت معهم في ذاك اليوم؟
نعم هذا ما يؤلمني بشدة كنت معهم وجوارهم ولم استطع إنقاذهم باليتني مت في تلك اللحظة, ويعاود بكاءه بشكل هيستيري، طبطت على كتفه النحيلة قليلا وتداركت الموقف ظناً مني! أحمد ربك يا نهاد على نعمة وجود والديك يقاطعني بصوت خافت، ومن أخبرك أن والدي موجود!!؟ لقد غرق منذ سنة وأيضاَ, كنت برفقته وشاهدت مصرعه وبقيت مربطاّ أشاهد أبي يموت..
مات وتركنا أنا وأخوتي الثمانية نتعارك مآسي الحياة برفقة أمي.
أهدأ عزيزي إنها الحياة لا تعطي أحداً كم يشاء صبراً لعل القادم أجمل.
أخبرني…
هل تود أن تعيش طفولتك كما أقرانك.. أم أنك اعتدت حياتك هذه؟
نظر لي نظرة بها ألف معنى ومعنى..
قالها اعتدت!
إنها كلمة رهيبة.. هل من المعقول أن أعتاد الألم؟ اعتاد القهر؟ اعتاد الظلم؟ اعتاد الحرمان؟ لا يمكن أن اعتاد لطالما أضع رأسي على وسادتي وأبدأ أتخيل نفسي بهندام مرتب، مدرستي التي نسيتها منذ سنين, رفاقي.. ولكن ما ألبث أن أفزع مستيقظا من أحلامي الوردية إلى واقعي المر.. الساعة السادسة صباحاً وقت ذهابي إلى العمل وجمع النايلون وأنا غارق بأحلامي المستحيلة المنسية ويضحك ضحكة وعينيه تبكي ألماً.. يدير ظهره مودعاً أياي حاملاً بيديه الصغيرتين أكياس مليئة بالنايلون اللعين..
مازال نظري مأخوذاً بهذا الطفل بكلماته ب أحلامه التي يراها مستحيلة!
رباه ما هذا الطفل المعجزة الطفل الرجل، طفل أقل ما يمكن القول بحقّه أنه طفل عن عشر رجال…آثر أمانيه ب أحلامه ب بطفولته.. ليواسي أمه الثكلى وأخوته الصغار بحنانه ودفئه في هذا العصر الجليدي..
سهير الإسماعيل/ المركز الصحفي السوري