أحداث كثيرة متراكمة متسارعة في وتيرتها وصخبها الإعلامي، جرت تحت جسر العلاقات الأمريكية الروسية.
في ظل استمرار الخلافات السياسية “الصوتية” خلال الأسابيع القليلة الماضية، نتيجة تباين الرؤى حول قضايا متقاربة في مواقعها السياسية متباعدة في جغرافيتها، من طهران إلى عواصم البلقان مروراً بدمشق وصولاً لكواليس الديمقراطي الأمريكي وسرقة بحوث أجراها الحزب الديمقراطي متعلقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة في أمريكا، إلى نفي موسكو الاتهامات الامريكية بالخروج من الحوار حول منظومة الدفاع المضاد للصواريخ، لابد لأي مراقب للمشهدين الأمريكي الروسي، ومنشغل في تأثيرهما على المنطقة العربية، أن يتوقف بتمعن عندها.
المشهد بدأ في طهران التي استضافت اجتماعا لوزراء “تحالف الشر” على الثورة السورية، وزراء دفاع الدول الثلاث سيرغي شويغو (روسيا) وفهد الفريج (نظام دمشق) وحسين دهقان (إيران) تحت عنوان تعزيز مكافحة الإرهاب، على حد زعمهم. كان نتيجته تعيين علي شمخاني في منصب المنسق الأعلى في الشؤون السياسية والعسكرية والأمنية بين إيران وسوريا وروسيا.
رغم أننا نعتقد أن هذا المنصب المستحدث كان لإرضاء غرور وانتفاخ إيران ليس أكثر، على المقلب السوري وتأكيداً لما تردده إيران من أن دمشق باتت تحت سيطرتها التامة، وأنها صاحبة الحل العقد في سوريا ولا يمكن تجاوزها، لكن الأحداث المتسارعة على أرض المقصلة السورية كانت تشير بكل وضوح إلى غير ذلك، فما أن مضت أيام قليلة على هذا الاجتماع التنسيقي، حتى تكبدت إيران وحلفاؤها من الميلشيات خسائر كبيرة جداً في حلب، وتمكن الثوار السوريون من إعادة عقرب الأحداث إلى ما قبل سبتمبر، تاريخ إعلان روسيا عدوانها المباشر على الثورة السورية، وخرجت تصريحات من جانب حلفاء إيران وأقلامها المأجورة تنتقد غياب الدور الفاعل لسلاح الجو الروسي في تلك الهزيمة المضافة إلى هزيمة مخيم حندرات قبل شهر تقريباً.
روسيا أوفدت وزير دفاعها إلى طهران بهدف إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي، على رأسه دول الخليج وحليفها الأمريكي، أن لديها إستراتيجيات بديلة في حال لم تتم تلبية طلباتها السياسية في الساحة السورية، التي تحولت لكرة بيد الروس تساوم به الشرق والغرب، ذلك بقصف المدنيين وإجبارهم على الهجرة واللجوء إلى أوروبا التي تعيش هاجس الإرهاب المقبل من الشرق، رغم أن كل من قام بعمليات إرهابية هو من مواليد أوروبا وعاش وتعلم فيها، وتبتزهم في ملفات البلقان وأوكرانيا.
هاجس اللاجئين الذي تُلاعب به موسكو الاتحاد الأوروبي كان واحدا من أهم أسباب خروج بريطانيا من الاتحاد. طبعاً أمريكا وروسيا مستفيدتان من إضعاف أوروبا وبقائها في حاجة للظل الأمريكي، رغم أن الانفصال سيكبح جماح مشروعات أمريكية كبرى في بريطانيا، في نظرة استراتيجية مستقبلية ستظل أمريكا أقوى قوة بشرية وعسكرية واقتصادية، من دون منافسة اليورو، والجنيه الاسترليني، وتظل أوروبا تابعة لأمريكا، كذلك روسيا ترغب في إضعاف الكتلة الأوروبية الرافضة لسياساتها العدوانية، وتجديد العقوبات الأوروبية عليها.
في ما وصفه صحافيون وخبراء أمريكيون أنه أكبر استفزاز لأمريكا في سوريا منذ بدء العدوان الجوي الروسي على الثورة السورية دعماً لنظام دمشق.
بهدف إجبارها على التحالف الفعلي في ما تسميه الحرب على الإرهاب في سوريا وخضوعها للاستراتيجية التي طبخت تفاصيلها الإجرامية في مطابخ الكرملين، الأمر الذي رفضة الكونغرس.
ولا يفوتنا في سياق الاستفزاز الروسي للأمريكان وحلف الناتو، تحذير خبراء وتخوف دول اوروبا وأمريكا من قيام روسيا باحتلال عواصم لاتفيا وليتوانيا وأستونيا خلال ستين ساعة، وأن قوات الناتو غير قادرة على الوقوف في وجهها، خلال تلك المدة، حسب تحليل صادر عن قسم البحوث العسكرية “إندبندنت” البريطانية، ما دفع بوزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر ليصرح من موقف “ضعف” بأن حلف شمال الأطلسي (الناتو) يدرس نشر أربع كتائب من القوات في دول البلطيق، للتصدي لما سماه السلوك العدائي لـروسيا.
وسبق هذا كله ما كان من أمر الطائرتين الروسيتين العسكريتين اللتين حلقتا بـ”صورة عدائية” قرب مدمرة بحرية أمريكية في بحر البطليق، بحسب مسؤولين أمريكيين، وقال مسؤول أمريكي إن الحادث يمثل “أحد أكثر التصرفات عدائية” في الآونة الأخيرة.
في ظلال التمادي الروسي وتجاهل التحذيرات الأمريكية لموسكو، خرج علينا الامريكيون بالوثيقة التي وقع عليها 51 دبلوماسياً أمريكيا تساوي ثورة داخلية واسعة، إلا أنها قد لا تكون ناجحة لإجبار أوباما على تغيير سياسته في سوريا، ودفع قوات بلاده إلى التدخل المباشر في سوريا. في هذه الأثناء يصرح وزير الخارجية الأمريك جون كيري، خلال زيارة للنرويج، إثر لقائه نظيره الإيراني محمد جواد ظريف: “على روسيا أن تفهم أن صبرنا ليس بلا حدود”. وفي الواقع هو محدود جدا في ما يتعلق بمعرفة ما إذا كان الأسد سيوضع أمام مسؤولياته أم لا؟، على صعيد التزام وقف إطلاق النار، ومن ثم تراجع كيري عن قوله هذا وأنه ليس تهديداً لموسكو.
تبادل أدوار أمريكي روسي
تحذيرات جون كيري التي تراجع عنها تعاملت معها موسكو بمنتهى السخرية والاستهزاء، حيث قال وزير الخارجية أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما تحدث في مرات عديدة عن “سياسة صبر استراتيجي” تمارسها الإدارة الأمريكية،
واستطرد، “وفي ما يخص جوهر الموضوع الذي أثار قلق جون كيري لهذه الدرجة، فهو تحدث عن نفاد الصبر بشأن عجزنا عن عمل ما يجب علينا أن نفعله مع بشار الأسد، فأذكر بأننا لم نقدم أي التزامات أو وعود لأحد”. وأضاف: “أننا اتفقنا على أن جميع من يعمل من أجل تسوية الأزمة السورية، سيسترشدون بالاتفاقات التي تم تحقيقها في إطار مجموعة دعم سوريا، التي تبناها مجلس الأمن الدولي في قراره”.
لم تكتف إدارة أوباما بتراجع كيري عن تصريحاته، بل أضافت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جنيفر فريدمان، في تصريحات للصحافيين “لا تغيير في سياسة أوباما تجاه سوريا”، وأن “الرئيس صرح مرارا، وبكل وضوح، بعدم وجود حل عسكري للأزمة السورية، وهذه الرؤية ما زالت قائمة” . تلقفت موسكو هذه المواقف الأمريكية الهزيلة، وقامت بالتصعيد السياسي والعسكري في سوريا، على لسان رئيس هيئة الأركان الروسية فاليري غيراسيموف الذي قال: “صبرنا ينفد حيال ما يجري في سوريا وليس صبر الأمريكيين. نفي بالتزاماتنا واتفاقاتنا لضمان وقف إطلاق النار والمصالحة الوطنية في سوريا على أكمل وجه”.
على الجانب العسكري أعلنت إيران عن إرسال قائد فيلق القدس قاسم سليمان لبحث الوضع في حلب، طبعاً من دون ابلاغ نظام الأسد، كما حدث مع زيارة وزير الدفاع الروسي إلى قاعدة حميميم التي فاجأت الأسد، الذي اعترف بهذا بعظمة لسانه. لكن المشهد لم يتوقف هنا بل أن التصعيد الروسي على اثر الزيارتين كان كبيراً جداً، حيث بدأت روسيا باستخدام القنابل الفوسفورية والقنابل الحارقة ليس في ريف حلب فحسب، بل في حلب المدينة نفسها، في ظل صمت مطبق في البيت الأبيض، في ما يعتبره البعض تبادل أدوار، روسي أمريكي ولعبة شد الحبل، ويظل الإنسان السوري ضحية هذا النفاق السياسي الذي تمارسة الدولتان ومن خلفهما الأسرة الدولية .
القدس العربي