بعد الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية التركي، يتوقع المراقبون أن تحاول حكومة أنقرة لعب دور أنشط في سوريا، مستفيدة من هامش الحركة الجديد الذي اتاحه لها الانتصار الانتخابي الكبير.
ويمكن الحديث هنا عن ثلاثة محاور تتعلق بدورها في سوريا، وهي المنطقة الآمنة والجيب الكردي شمال سوريا، وجهود التوصل لتسوية سياسية لانهاء النزاع.
ستكون تطلعات حزب العدالة في إحداث تغيير في هذه المحاور الثلاثة محكومة بالنهاية بالرؤية الأمريكية في سوريا، باعتبار ان كل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (ان كانت الحكومات العربية أو تركيا) يعملون بالملف السوري ضمن منظومة تنسيق مشتركة مع الولايات المتحدة سياسيا وامنيا، وهذا لا يعني الارتهان الكامل للقرار الأمريكي، ولا ينفي وجود هامش تحرك لحلفاء الولايات المتحدة في سوريا، لكنه يعني بالتأكيد وجود خطوط حمراء ترسمها الإدارة الأمريكية في الساحات التي تمثل لها إهتماما خاصا كسوريا والعراق، بحكم ان هذه الدول مرتبطة بتنسيق استراتيجي مع الولايات المتحدة في الملفات الخارجية ذات الإهتمام المشترك، وهو ما يجعل هناك حدودا للتدخل أو الدور الذي يمكن لتركيا لعبه في سوريا والعراق، على عكس إيران، التي تعمل متحررة من إطار المنظومة الأمريكية، ووفق مشروعها التوسعي الخاص، بل انها كانت معادية للمنظومة الأمريكية لسنوات إلى ان فرضت نفسها كحليف أمر واقع لا يمكن تجاهل نفوذه وسطوته في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وهذه الحدود التي فرضتها حالة تركيا كحليف إقليمي للأمريكيين ظهرت بوضوح في السنوات الاربع السابقة من عمر النزاع السوري، فكانت كل غرف الدعم التسليحي للفصائل المعارضة مشتركة بين الأتراك والأمريكيين، وكان الخط الأحمر الأمريكي بمنع إدخال أسلحة نوعية أو مضادة للطائرات شرطا التزمت به أجهزة الأمن التركية في إطار التنسيق المشترك الأمني مع الأمريكيين، وامتد ذلك طبعا ليشمل انتخاب فصائل معينة وتقويتها بخطة أمريكية تركية عربية مشتركة تضمن إيجاد بديل مسلح قوي لتقويض دور الجماعات الجهادية الخارجة عن بيت الطاعة الأمريكي. وفيما يتعلق بالإهتمامات التركية الثلاث، المنطقة الآمنة، الجيب الكردي، التسوية مع النظام، فان تركيا لم توفق حتى الآن في تحقيق هدفها الاول وهو اقامة منطقة آمنة، لسببين، اولهما هو عجز الفصائل السورية في الجيش الحر وفصائل التركمان والاسلامية المقربة من الاخوان المسلمين أو أحرار الشام وكلاهما مقربان من قطر وتركيا، عجزهما على مدى الأشهر الثلاثة الاخيرة من انتزاع أي قرية من تنظيم الدولة ضمن المنطقة الآمنة المزمع انشاؤها شمال حلب، بل على العكس فان تنظيم الدولة توسع وسيطر على عدة قرى استراتيجية وحاصر مارع ثم سيطر على مدرسة المشاة، على الرغم من المساندة التي وفرتها الغارات الأمريكية وآخرها في بلدة حربل لهذه الفصائل التي لم تنجح في تحقيق أي نتائج عسكرية إيجابية مع النظام طوال عامين داخل حلب.
وهنا تبدو السياسة التركية فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة تحاول التوفيق بين المطالب التركية الخاصة وهي منطقة آمنة تصبح مكانا لتجمع اللاجئين وارضا سورية خاضعة للنفوذ التركي، ومشمولة بالحظر الجوي الذي طالما طالب به الثوار وهو مطلب تريد تركيا تحقيقه بشدة، ولكنها ايضا لم تتمكن من التوفيق مع الرؤية الأمريكية التي لا يهمها سوى مقاتلة تنظيم الدولة شمال سوريا، ولذلك دعم الأمريكييون الأكراد أعداء تركيا شمال سوريا، وهنا جاءت الصيغة التوفيقية التي مالت لمصلحة الأمريكيين، فأعلن الأمريكيون انهم لم يوافقوا على إنشاء منطقة آمنة بالمفهوم التركي فهي لا تشمل اقتطاع منطقة لإسكان اللاجئين والأهم إعلان الأمريكيين ان لا حظرا جويا تم الاتفاق عليه، وان المنطقة الآمنة هي ليست آمنة من طائرات النظام بقدر ما هو مطلوب من تحقيقها ان تكون آمنة من تنظيم الدولة فقط. وهكذا تم اختيار شريط حدودي بطول ستين كيلومترا تتواجد فيه قوات تنظيم الدولة ليكون منطقة آمنة يسكنها اللاجئون دون عن ستمائة كيلومتر هو طول الشريط الحدودي التركي، فكانت العملية اذاً هي محاولة توفيقية بين الأمريكيين والاتراك: حسنا، سنتوقف عن دعم الاكراد شمال سوريا، ولكن انتم بالمقابل قاتلوا التنظيم واذا اردتم منطقة امنة فلتكن امنة من تنظيم الدولة وليس النظام، وتركت تركيا مساحات واسعة من الحدود السورية تسيطر عليها فصائل موالية لها يمكن لها اقامة منطقة امنة فيها، ابتداء من اعزاز وصولا لأطمة وباب الهوى، ولكن الغاية الأمريكية بلورت هذه الصيغة بالنهاية والتي يمكنها ان تسبب المزيد من المهجرين والنازحين الذين سينتجون عن المعارك المفترضة في قرى المنطقة الآمنة المفترضة.
هذا فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة، اما فيما يتعلق بالأكراد، فأيضا تبدو تركيا منزعجة من الدور الأمريكي الذي يمد الفصائل الكردية بالسلاح والدعم ويعتبرهم حلفاءه الأهم في سوريا، ورغم وعود أمريكية بوقف دعم الأكراد شمال سوريا جراء الإتفاق حول المنطقة الآمنة والتي سيقوم الأتراك فيها بقتال تنظيم الدولة بدلا من الأكراد، إلا أن الأمريكيبن تنصلوا تقريبا من هذا التعهد، وقاموا وبشكل رسمي بإقرار خطة لدعم الأكراد ومجموعات من عشائر عربية ضمن تشكيل يسمى قوات سوريا الديمقراطية، مهمتها مهاجمة الدولة في معقلها بالرقة مما حدا برئيس الحكومة التركية داود اوغلو بالتصريح بأنهم سيقصفون المقاتلين الأكراد إذا تجاوزوا غرب الفرات نحو جرابلس.
تركيا ورغم انها تعتبر المنظمات الكردية في شمال العراق وشمال سوريا منظمات ارهابية ومعادية، ورغم انها تشن منذ أشهر حملة قصف جوي شديدة ضد مواقع هذه التنظيمات، إلا ان القصف التركي تجنب تماما الفصائل الكردية شمال سوريا واقتصر عليها شمال العراق فقط، وهنا يبدو الخط الأحمر الأمريكي واضحا ايضا في شمال سوريا بمنع تركيا من قصف أعدائها الا في بعض الغارات القليلة جدا مقارنة بالغارات على شمال العراق.
فيما يتعلق بالتسوية السياسية، فالأمريكيون وحلفاؤهم العرب وخصوصا السعودية اعلنوا صراحة قبولهم ببقاء النظام والجيش، ويبقى الحديث عن مصير شخص الرئيس السوري هو أمر شكلي امام القبول ببقاء النظام والمؤسسات الامنية التي يعتمد عليها وفي مقدمتها الجيش، وبما ان تركيا هي جزء من منظومة الحلفاء الأمريكيين بالمنطقة فهي لن تتمكن ولن تسعى لمواجهة الرغبة الأمريكية بتسوية تبقي التظام وتوجه بنادق المعارضة نحو الجهاديين، وهو ما حدث في العراق قبل سنوات بجهود ساهمت فيها تركيا دبلوماسيا وسياسيا من خلال تأثيرها على الفصائل المتمردة المقربة منها.
وهكذا فان تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل سنوات والتي كانت تصر على إسقاط الرئيس بشار الأسد وتحرير سوريا منه لم تترجم إلى خطوات عملية حاسمة داخل سوريا بسبب تناغم تركيا مع رؤية حليفتها الأمريكية القاضية بإبقاء النظام ومحاربة الجهاديين، على عكس إيران التي ارسلت جنودها لتثبيت النظام، بينما تمكنت تركيا بالكاد من إدخال فرقة عسكرية لإخراج رفات قبر مؤسس دولتها العثمانية، وقال رئيس الوزراء أوغلو حينها انه صلى صلاة الشكر لعودة جنوده سالمين عدا جندياً قتل بحادث غير قتالي.
المسؤولون الأتراك كانوا صادقي النوايا بالطبع في نصرة الثورة السورية وقدموا للاجئين السوريين خدمات لم يقدمها أي بلد عربي أو أجنبي، لكن هذا المجهود نجحت فيه تركيا لأنه داخل حدود بلادها، أما خارج الحدود فتبدو تركيا مكبلة في محاولاتها لنصرة اصدقائها وحلفائها، خاصة وأن الزخم الأمريكي لإسقاط النظام قد خف، بعد وقت كانت فيه تصريحات الرئيس اوباما بخلع شرعية النظام السوري تتكرر عشرات المرات شهريا، قبل ان توقع بلاده اتفاقا نوويا مع ابرز حلفائه بل وراعيته إيران، مكنها من دعم النظام دبلوماسيا وسياسيا بعد الدعم العسكري، وقبل التدخل الروسي الذي طاف بطائراته داخل الحدود التركية عدة مرات في استعراض وتحد لحكومة طالبت يوما بحظر جوي لطائرات النظام السوري فاذا بها تطالب الروس بحظر طائراتهم في الاجواء التركية.
وائل عصام – القدس العربي