حققت دبلوماسية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقدما غير مسبوق باتجاه حل الأزمة الليبية، فهو قد نجح، عملياً، فيما فشلت فيه الأمم المتحدة، وكذلك دول أخرى مؤثرة على الساحة الليبية وذات حظوة على أحد طرفي الأزمة، كمصر والإمارات، وكذلك دول كالمغرب التي خرج منها اتفاق الصخيرات الشهير، والجزائر التي تلعب دورا مهما في كل الوساطات.
وتمثل نجاح ماكرون الأول في جمع الخصمين الكبيرين، الجنرال خليفة حفتر، الذي سيطر مؤخرا على عاصمة الشرق الليبي، بنغازي وأعاد سيطرته سابقا على أهم الموانئ النفطية، ورئيس الوزراء المعترف به أمميا، فايز السراج، الذي تسيطر قواته على العاصمة الليبية طرابلس وعلى غرب البلاد، والذي حققت قواته انتصارا على تنظيم «الدولة الإسلامية» في مدينة سرت كلفها مئات القتلى والجرحى، واستطاع، إضافة إلى ذلك، الصمود أمام الضغوط الكبيرة لبعض الفصائل العسكرية المناهضة له والتي يؤيد بعضها حكومة ليبيا التي كانت تحكم طرابلس سابقا.
نجاح ماكرون الثاني كان في إقرار قضيتين فاصلتين في التسوية الليبية المرتقبة: وقف إطلاق النار بين قوات الطرفين، واتفاقهما على إجراء انتخابات في ربيع العام المقبل، وهما أمران كان حفتر يتمنع دائما عن الموافقة عليهما.
استند نجاح ماكرون إلى دور فرنسا المعروف في تقديم الدعم العسكري لحفتر، وهو موقف شديد الأهمية بالنسبة للجنرال الذي يجمع إلى قوته العسكرية دعم محور إقليمي عربي يؤمن حدوده والحركة اللوجستية مع مصر ويوفر التمويل والتسليح والغطاء الجوي، وفوق ذلك علاقة قوية مع روسيا الطامحة إلى موقع قدم لها في ليبيا. الدعم الفرنسي، بهذا المعنى، كان نافذة الجنرال لاختراق المحور الأممي – الغربي ولتصديع الشرعية السياسية التي قدمتها الأمم المتحدة لخصمه السراج.
الواضح أن ماكرون، المدعوم فرنسيا بشرعية رئاسية وبرلمانية كبيرة، أدخل حيوية خاصة على لعبة الأمم لكنها حيوية لا تخلو من انتهازية وقفز على شركائه الكبار، كما حصل في تقديمه حبل الانقاذ لترامب بعد التجاهل الذي قوبل به من الاتحاد الأوروبي، وكذلك في إعادة تأسيسه لعلاقة الغرام والخصام التاريخية بين موسكو وباريس، والتي كان اجتياح نابليون بونابرت لروسيا عام 1812 ذروته العاصفة، والذي رغم هزيمته الشنيعة فقد ترك شغفا روسيا كبيرا بكل ما يتعلق بفرنسا.
غير أن نجاح ماكرون في جمع السراج وحفتر ودفعهما للاتفاق على انتخابات مقبلة ووقف للنار لا يعني أن هذا الاتفاق قابل للحياة وأن حفتر (على عادة الجنرالات) سيتنازل عن حلمه بأن يكون قذافي ليبيا الجديد (أو سيسي ليبيا؟) الذي يحظى بسلطات مطلقة على «رعاياه»، كما أن الصيغة التي قدمها ماكرون على أن السراج يمتلك شرعية سياسية وحفتر شرعية عسكرية أمر صعب التصور إلا إن كان المقصود منه تسليم السراج سلطات شكلية على أن تكون أعنة السلطة بيد حفتر.
يجب الاعتراف، مع ذلك، أن نزول حفتر عن فكرة الاستيلاء العسكري على البلاد هي نقلة مهمة، وهي لا تعود إلى مهارات ماكرون فحسب بل إلى حقيقة لا يمكن التغافل عنها في الموضوع الليبي هي أن حفتر لا يستطيع الاستيلاء على غرب البلاد لأسباب كثيرة يعرفها الليبيون وتدركها المنظومة الدولية، وأن الانتخابات المقبلة، اذا حصلت، فيفترض أن تكرس، على الأغلب، صراع السلطة الحالي وموازين القوى بين الشرق والغرب.
تصريحات حفتر الأخيرة حول قبول «الإخوان المعتدلين» مؤشر آخر على إدراك حفتر لوزنه الحقيقي، لا في ليبيا وحدها، بل كذلك على الساحة الدولية، ولكن الأقوال وحدها، في الحالة العربية، لا تكفي، والدبلوماسية الفرنسية وحقائق الجغرافيا والسياسة أيضا لن تمنع الجنرال الطموح من المحاولة المستمرة لتطويع خصومه وتحقيق حلمه بالرئاسة.
القدس العربي