بأي معنى، سليم ومقبول في الحدود الدنيا، يمكن الافتراض بأنّ الشعب السوري كان ممثلاً في «الاجتماع الموسع لفصائل المعارضة السورية»، الذي احتضنته العاصمة السعودية الرياض مؤخراً؟
وهل يكفي زعم المؤتمر، في بيانه الختامي، بأنّ المشاركين «ينتمون إلى كافة مكونات المجتمع السوري من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والسريان والشركس والأرمن وغيرهم»؟ بل هل يصحّ القبول بحُكم، ذاتي الاستخلاص في الواقع، يؤكد أنه «شارك في الاجتماع رجال ونساء يمثلون الفصائل المسلحة، وأطياف المعارضة السورية في الداخل والخارج»؛ وقد غاب مَنْ غاب، أو غُيّب، عن صواب أو باطل، لهذا أو ذاك من الأسباب المتقاطعة؟
الإجابة بالنفي على كلّ هذه الأسئلة ليست إنصافاً للحقيقة أوّلاً، فحسب؛ بل هي، ثانياً، تؤكد مظاهر الخلل الكثيرة التي اعترت منطق تمثيل «الشعب السوري»، منذ انطلاق الانتفاضة في آذار (مارس) 2011 وحتى اليوم. وابتداءً بمؤتمر أنطاليا، في حزيران (يونيو) 2011، وحتى المؤتمرات الثلاثة الأخيرة (الرياض، برعاية سعودية ـ تركية؛ والرميلان، برعاية حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي»؛ ودمشق، برعاية النظام السوري)؛ زعم الجميع تمثيل إرادة الشعب السوري، مع حفظ الفروقات بين الزاعمين بالطبع، وبعضها سياسي وإيديولوجي وأخلاقي جوهري.
ولعلّ أوّل الخلل يبدأ من الزاعم نفسه، فرداً كان أم جماعة أم تنظيماً، مدنياً أو عسكرياً؛ الذي أنس في نفسه القدرة على، بعد الرغبة في، تمثيل «الشعب السوري»؛ فأتبع الشعور المحض بالحقّ المكتسَب، والبعض رآه واجباً أيضاً، فتنطع للتمثيل، وصار ممثلاً بحكم الافتراض وقوّة المؤسسة، الأمر الذي يسري على جميع أطراف «المعارضة» ذات المؤسسات، في الداخل والخارج على حدّ سواء. الديمقراطية البسيطة لا تقرّ بهذه الصيغة في تمثيل البشر، غنيّ عن القول، ولكنها في الآن ذاته لا تحجب عن الزاعم حقّ الزعم، إلى أن يثبت العكس؛ الأمر الذي ثبت، للأسف، مراراً وتكراراً!
الخلل الثاني هو انسياق الزاعم إلى ما يشبه التعاقد القسري مع «الشعب السوري»، دون أي مستوى من استشارة ذلك الشعب، مفاده المعادلة التالية: ما دمتُ أزعم تمثيلكم، وأفترض أنني أنطق بلسانكم، وأدافع عمّا أعتبره ثوابتكم ومستقبلكم، وأقيم في اسطنبول أو القاهرة أو عمّان أو الرياض ممثلاً لكم لدى «المجتمع الدولي»… فإنني، تأسيساً واستطراداً، ممثّلكم الشرعي! وفي سياق هذا الانسياق إياه، قد يحدث أن يحترف الزاعم صيغة التمثيل هذه، فتصبح مهنة لديه، يُجزى عليها مالياً، وله فيها «راتب» و»مخصصات» و»نفقات»؛ فتمتزج مهنة التمثيل بصفة التعيّش، ولكن على نحو لا غبار عليه في ناظر الزاعم، لأنه لا يرى فيها الكسب والتكسّب بل الحقّ المشروع!
الخلل الثالث هو أنّ الزاعم، إذْ لا يمتلك ذاتياً أيّ معادل قوّة يسند زعمه في تمثيل البشر، مضطرّ إلى ممارسة هذا المقدار أو ذاك من التبعية لقوّة أعلى منه، ومن مؤسسته التي ينضوي فيها؛ لا ترعى شؤون التعيّش والتكسّب والأسفار والإقامات، فقط؛ بل تتولى، كما هو حقّها المشروع هي أيضاً هذه المرّة، رسم السياسات للزاعم، وتجنيده في هذ الخيار أو ذاك، وتوظيفه مباشرة حين يحتدم الصراع على الأجندات. وهذا ما يجعل المؤسسة «المعارِضة»، أسوة بالمعارض نفسه، رهينة متشرذمة بين قوى
عديدة؛ بعضها يتصارع، وبعضها الآخر يتقاسم، ومعظمها لا تكون غاياته البعيدة منسجمة أصلاً مع مطامح «الشعب السوري» الذي يتنطح الزاعم لتمثيله!
وإلى أن تتيح حياة السوريين الراهنة تطوير صيغة أخرى، أرقى وأوضح وأكثر ديمقراطية، لتمثيل آمالهم وآلامهم؛ فإنّ مفهوم «الشعب السوري» ذاته، الذي يزعم الزاعمون تمثيله، يجب أن يبقى منحصراً بين أهلّة. ما دام الكلّ يدّعي وصلاً بليلى!
صبحي حديدي ـ القدس العربي