في مثل هذه الأيام، ولكن قبل 11 سنة، كانت أنظار العالم منشدّة إلى مدينة الفلوجة، حيث كانت قوات الاحتلال الأمريكية تحاصر سكانها، أو تشنّ عليهم هجمات وحشية متعاقبة أسقطت مئات الأبرياء قتلى، والآلاف جرحى؛ بذريعة محاربة الإرهاب، الذي بدا يومها وكأنه غادر كلّ أوكاره العالمية، واستقرّ هنا فقط! ثمّ دخل على الخطّ رجل لم يكن أحد ينتظره في معمعة الأخبار تلك، وما كان له أصلاً أن يُدعى إلى صناعة أيّ خبر ذي دلالة في حينه: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين! ففي اجتماع حافل بالمغزى مع أركان القيادة العسكرية الروسية، بشّر العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى في العالم. وتابع يقول، في تصريحات نُقلت على شاشات التلفزة الرئيسية، إنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: “أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب”.
وقبل أيام قليلة، في ذروة خضوع الفلوجة لوحشية جديدة متعددة الرؤوس، بين ميليشيات “الحشد الشعبي” والجنرال الإيراني قاسم سليمان و”الخبراء” الأمريكيين وجيش نوري المالكي/ حيدر العبادي؛ خرج بوتين على العالم، في اجتماع مع قيادته العسكرية أيضاً، لينذر ويتوعد: “يعزز حلف شمال الأطلسي نبرته العدوانية وتصرفاته السافرة قرب حدودنا. في مثل هذه الأحوال من واجبنا أن نولي اهتماماً خاصاً بتعزيز الاستعداد القتالي لبلادنا”. وكان بوتين يلمّح إلى قاعدة الصواريخ التي افتُتحت مؤخراً في ديفيسيلو، جنوب رومانيا؛ وإلى أنظمة الحلف الدفاعية الأخرى، في بولونيا ودول البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. وقبل هذا، في حوار “شفاف” مع الموقع الإيطالي “كورييرا ديلا سيرا”، ذكّر بوتين بأنّ الولايات المتحدة تنفق على التسلّح أكثر مما تنفقه دول العالم مجتمعة، وأنّ إجمالي إنفاق الأطلسي العسكري يعادل عشرة أضعاف ما ينفقه الاتحاد الروسي”.
لكن بوتين، وكما هو منتظَر منه، يتجاهل تماماً الوجود الروسي في سوريا، وعلى امتداد الشريط الساحلي السوري؛ حيث صار عديد القوات، وأنواع سلاحهم وعتادهم، لا يعادل قاعدة عسكرية متكاملة، وهجومية الطبيعة جوهرياً، فحسب؛ بل بات هذا الوجود يتفوّق على كثير من القواعد العسكرية الأمريكية، أو الأطلسية، هنا وهناك في العالم. أكثر من هذا، يدير بوتين، في شمال حلب تحديداً، ما يشبه لعبة “روليت” روسية حبلى بالمقامرات والمخاطر والمجازفات، قوامها هذه العناصر: 1) التواطؤ مع إيران و”حزب الله” والميليشيات المذهبية، وما تبقى من جيش بشار الأسد، على استهداف، وبالتالي إضعاف، فصائل “الجيش الحرّ” والفصائل الإسلامية المعتدلة؛ 2) الأمر الذي يُبقي “داعش” آمنة مطمئنة، ويتيح لها الاستقواء على خصومها، والدخول في معارك تنتهي لصالح النظام وحلفائه؛ و3) تأمين العون، تسليحاً ومعونات لوجستية، لوحدات “سوريا الديمقراطية”، بالتنسيق هذه المرّة مع التحالف الدولي، أي: واشنطن والأطلسي، فضلاً عن الوحدات الخاصة البريطانية والألمانية والفرنسية.
ثمة مخاطر ومجازفات في كلّ بند من البنود الثلاثة السالفة، وأمّا وجه المقامرة الأبرز فهو احتمال اضطرار تركيا إلى اجتياح مناطق تمدد “سوريا الديمقراطية”، أسوة بـ”داعش” أيضاً؛ ليس في المساحات التي تعتبرها أنقرة حيوية لأمنها القومي غرب الفرات فقط، بل كذلك ضمن مشروع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخاصّ بإقامة منطقة، وربما مناطق، عازلة على الشريط الحدودي السوري ـ التركي. فإذا تدخلت تركيا عسكرياً، على هذا النحو، فإنّ احتمالات صدام جوي، أو حتى صاروخي، مع الوحدات الروسية سوف تصبح أكثر ترجيحاً من ذي قبل؛ وهذا تطور سوف يُلزم الحلف الأطلسي باتخاذ أيّ إجراء ملموس بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف، الذي تستوجب الدفاع عن أية دولة عضو تتعرّض لاعتداء خارجي. سيناريو سبق أن طُرح مراراً، وناقشه عدد من المعلقين الغربيين (دافيد بلير، في “تلغراف” البريطانية مثلاً)، من منظور أوّل يخصّ أمن الحلف، وليس أمن تركيا أو الخشية من صبّ المزيد من الوقود على نيران الحروب في سوريا.
وإذْ يعلن بوتين أنّ روسيا لن تدخل في “سباق تسلّح” مع الولايات المتحدة أو الأطلسي، فليس هذا من باب التعفف والترفع عن إعادة إحياء تراث الحرب الباردة؛ بل، ببساطة واضحة جلية، لأنّ اقتصاد موسكو توقف منذ عقود عن تلبية هذه الرغبة العسكرية، كما قمع رغائب أخرى أقلّ منها طموحاً. وهذه هي روسيا كما أرادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (ومن قبله أوائل أنبياء الحرب الباردة)، وكما يريدها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبيوتات المال والأعمال: قوّة عظمى تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية.
اقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكنّ أساسه الوطني يعتمد اليوم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، ويرتهن أكثر فأكثر للرأسمال الأجنبي والاستثمارات المتعددة الجنسيات. تباين صارخ في التوزيع الاجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادّة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعَمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط القوموية.
وإذا لم تكن روسيا هذه هي “بيت الموتى”، في الوصف الذي اختاره لها أديبها الكبير فيودور دستويفسكي أواخر القرن التاسع عشر؛ فإنها يمكن، بالفعل، أن تكون “بيت المجانين” في الوصف الذي اختاره الزعيم الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف أواخر القرن العشرين. “ستّة رؤساء وزارة في ثمانية عشر شهراً… ألسنا بالفعل في بيت مجانين”؟ سأل زوغانوف، ذات يوم غير بعيد أيضاً، وهو لا يبدي أية سعادة بمجيء رئيس الوزراء الجديد، القادم مع ذلك من قلب الـ KGB: فلاديمير بوتين! ذلك لأنّ زوغانوف كان يملك تقارير موثقة تقول إنّ ربيب يلتسين هذا، وخلال عقود عمله في المخابرات السوفييتية، استحقّ لقب “الكاردينال الرمادي”: لأنه كاردينال أوّلاً (أيّ أقلّ مرتبة من أي القياصرة البطاركة)، ولأنه ثانياً رمادي (أي لا لون له في عبارة أخرى)!
وإذْ يجهد بوتين لإعادة إدارته إلى المربّع الأول في الحسابات الدولية الجيو ـ سياسية، عن طريق مغامرات/ مقامرات في أوكرانيا والقرم وسوريا، فإنّ البلد، في بنيته الاقتصادية ـ الاجتماعية، لا يشغل ذلك المربع إلا من بوابة كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)؛ لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا توقّف في المكان، بمعدّل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء! وهذا مخلوق عاجز عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة). يقصف المشافي في سوريا، ويكذّب وثائق القصف الدامغة؛ وينشر الصور التي تُظهر تعمير قاذفات السوخوي بأسلحة محرّمة دولياً، ثمّ ينكر الصور ذاتها التي توزعها وزارة الدفاع الروسية؛ ويعتب على الأطلسي في سباق التسلّح؛ لكنه يهدد بأنظمة صاروخية ما أُنزل بها من سلطان…
ليس دون إنتاج، وإعادة إنتاج، واقع “روليت” انفجاري؛ كلّ يوم…
القدس العربي