دعا مختبر دمشق المسرحي جمهور المسرح ومحبيّه لحضور عرضه المسرحي الأخير «زجاج»، في اقتباس حرّ لمسرحية «هواية الحيوانات الزجاجية» للكاتب الأمريكي تينسي ويليامز، أحد الأسماء المهمة في تاريخ الأدب المسرحي العالمي، الذي لم يغب تأثيره عن عقول كتاب المسرح الشباب في العالم، ولا عن المهتمين بكتاباته من طلبة الأدب الإنكليزي، لما في كتاباته المسرحية والسينمائية من خصوصية وحساسية عالية تتوجه مباشرة لتسكن القلب وتثير الخيال، إثر قراءتها أو محاولة استكشافها. كتب ويليامز مسرحيته هذه في محاولة منه لتخليد ذكرى عائلته وتحديداً تلك الذكرى الرقيقة البيضاء لشقيقته روز التي تعرضت لعنف مبالغ فيه إثر عملية جراحية في رأسها أثرت سلباً على حياتها.
أعاد المخرج السوري أسامة غنم بدوره تقديم هذه المسرحية اليوم في دمشق محاولاً صنع محاكاة شبيهة بتلك الأمريكية. لكنها «إعادة» تثير أسئلة كبيرة متضمنة أولاً غياب حساسية المعاني الأمريكية على طريقة ويليامز، ومتناسية لتفاصيل الحياة اليومية القاسية في دمشق، وكإحلال شرعي للسؤال «الدراماتورجي» المعاصر: ماذا يفعل السوريون اليوم بمسرحهم مقابل كل هذا الزخم الصوري للألم؟ ليس لخصوصية ما يجري في سوريا بل لمشروعية هذا السؤال الذي أصبح ضرورياً الجواب عليه في الزمن المعاصر. ماذا يفعل المسرح أمام الصورة، وكيف نضع المسرح بين أيدي المهمشين وبعيداً عن المتسلطين؟
أجاب غنم على ذلك بطريقته، فلم يكتف بتشويه كل تلك الحساسية المتراكمة في كلمات «إي إي كيمنغز» حيث بدأ إعلان عرضه بجملة مترجمة من إحدى قصائده «ما من أحدٍ، حتى المطر، لديه مثل هاتين اليدين الصغيرتين»، وتهشيم كل ما يقوم عليه مسرح وليامز من ارتباط حسيّ للفردي واليومي بالتاريخ، فظهر أمام من بقي في دمشق بدعوته هذه التي انتظرت ثلاث سنوات ونيف للخروج، بمظهر مستحضر أرواح تاريخية وقد تناسى أن يضعها ضمن قالبها المعاصر، حيث ضاعت معه فترة الكساد الاقتصادي الكبير في أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية، التي تقوم عليها بالتحديد أحداث هذه المسرحية، لتصبح الحيوانات الزجاجية الدمشقية تهلع على أصوات القصف المنسي والمختبئ وراء الأبنية وتحت الطاولات، كاتفاق ضمني على المنسيات المهولة المحيطة بنا والبعد أكثر عن الواقعية.
جاء الجمهور القليل المتعب، كمدينته، لحضور استعراض مصائر شخصيات نسيت أين تعيش، ومن هنا أعاد المخرج نبش وترجمة النص بشكل يتفق مع رؤيته الكونية البعيدة كل البعد عن أمريكا وويليامز. ومن هنا يتساءل الحضور المهتم هل أستطيع إخراج عرض مسرحي في دمشق اليوم؟ وكإجابة أولية على ذلك يمكننا أن نقول: نعم، إذا استطعت أن تعمي عينيك عن كل ما يجري، حتماً ستنجز مسرحاً برجوازياً يهلل له أهل الواقعية الأمريكية، التي يفهمونها بتبرج زائد ويفخرون بجدتها وأصالتها. فعلى وقع أحداث محلية وعالمية صادمة مربكة وكارثية عرض أسامة غنم نصه «الرهيف» في المسرح عندما كان أهل المسرح قد هاجروا. وفي وقت يشبه وقت العرض بطوله وثقله، هو الذي اعتاد جمهوره على ضيق أمكنته البديلة التي يلجأ إليها مثل المحمصة في حي باب شرقي والقبو في البرج الفردوس، كدعوة منه لاستكشاف خبايا الأدب المسرحي العالمي بقالبه المعاصر. أما هذه المرة فلم تتسع تلك الأمكنة البديلة في الأحياء الدمشقية المتأزمة على وقع القصف الدائم والتشديد الأمني المربك، فأخذ حيواناته الزجاجية إلى مسرح فواز الساجر في المعهد العالي للفنون المسرحية، ووضعها داخل بيت إحدى العائلات الشامية الصغيرة ليرينا مشاهد لعلاقة أُسرية مرتبطة بأحلام الشباب، وما ذلك كله إلاّ إشارة منه لطائر الشباب الجميل الذي لا ينفك يتغنى بقوته كتغني العامة بالعنقاء.
وفي الوقت الذي ينتظر السوريون عنقاءهم ومخلصهم في ظل غياب خلهم الوفي، يجد أسامة غنم أنه الوقت المناسب لحياد المسرح وتجنيبه الضرر. وبعيداً عن مواقف وحسابات تذكر له، ينكب المخرج على ذاتيته في رسم تفاصيل حياته البطيئة التي يحملها معه كل يوم متنقلاً بين مقاهي دمشق ومطاعمها، ليجعل من بطل مسرحيته يوسف (توم) حسب المسرحية الأصلية، يقف ليلاً أمام كاميرته الصغيرة مناشداً منتجيّ ومانحيّ الوطن العربي والداعمين الثقافيين فيه متسامحاً مرة وناقماً مرةً أخرى ليحكي حكاية عائلته الصغيرة في فيلم سينمائي يحلم بإخراجه، باعتباره شابا خاصا جداً من أبناء جيله، يهوى أفلام السينما، فبين تمجيد الداعم ونبذه أطلق يوسف على عائلته رصاصة الرحمة الأخيرة، كما فعل والده قبل سنوات عندما هجرهم ورحل مع ذاكرة معطوبة للنسيان فاختار يوسف شوارع بلاد الله الواسعة ليلقي نفسه عليها متخيلاً أن وراء اتقاد كل شمعة هي صورة أخته ديمة (لورا) الفتاة المكتئبة التي لم تخرجها صورة الخطيب جمال (جيم) بانبثاقها من جديد إلى الحياة من كل دواماتها العاطفية والنفسية ومشكلات أخرى مع أمها التي تتبختر كل يوم بجلال أمام انفصامها الذي ينبش سنوات رخاء الدمشقيين الأثرياء باعتبارها ابنة إحدى العائلات الدمشقية الكبيرة في سبعينيات دمشق، ليضعها أمام أعين شبابها اليوم كحالة تذكير لامنطقية بأن الماضي لن يثقله على قلوبنا شيء. أما الحاضر فالتجاهل مصيره، وأمام هذا الحاضر الفج بدمويته وانفلاته الغائب تماماً عن الشقة الصغيرة في بنايات الـ14 في منطقة المزة التي يعرفها أهل دمشق جيداً، وبعيداً عن الخوف من الموت، تخاف الأم على ابنتها خلال مشوارها اليومي إلى الحدائق، حيث تقضي وقتها هناك تراقب الحياة من منظورها الخاص.
يقرر المخرج أنها البيئة المثالية لتناغم أحداث ويليامز الأمريكية مع نظيرتها الدمشقية. ويؤكد على كلمة «دمشق» في إحالة ضبابية لما يقع تحت السيطرة الأمنية، التي يقولون عنها مناطق آمنة، معتبراً أنه لا يجيد الحديث عن الأفقر والأكثر تهميشاً، ولا يعرف التكلم عن الأكبر والأوسع والأنجح. بالفعل هو الغائب الحاضر، باعتبار أن الواقع لم يدخل بيتنا فلم نعرف بعد ماذا يجري حولنا، فقط نكتفي بمسرح كمدينة، يعيش على المشاعر بعيدا عن الواقعية ولا يضيع فرصة للتباكي على الماضي.
مسرحية «زجاج» وسط دمشق… الواقع لم يدخل بيتنا
القدس العربي