ها هي آية أخرى من آيات حلب، تسقط عمداً من سورة آل عمران «قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ» وما زال نصف (الكلاسة) واقفاً بانتظار صلاة الغائب ونصفها الآخر مستلقيا، ينتظر مرور الهدنة فوق الأنقاض، وطريق (الكاستيلو) لم يقرأ ضحكة عمران بين النوتات الموسيقية للقدود الحلبية؟ «رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ» وقد انحسر الحب، وأكل غياب الوطن ملامحي، ولم يبق من أهلي سوى تلك «البناطيل المرقعة بالتعب، والقمصان الممنوعة من النوم»؟
«أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ» ولم يعد الطريق إلى الأغاني يتسع لأقدامي، وقد سقط الكرز من شفتي، وامتلأت حصالة روحي ببرد الخوف والغياب؟ «أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ» وينتظرني هناك.. في منتصف الطريق، بين الوردة وعطرها؟ (لِي وَلَدٌ) والحقيقة قبل ابتسامته، خطأ ما بعدها، (وَلَدٌ) واسمه: عمران، ولد كحلب، لا يقبل اسمه التعريف بأل، يجلس على كرسيّ الدهشة، ويبحث في مصحف العرب عن سورة الرحمن، بعيون غادرتها ألوان قوس قزح، لقد أرهقت روحه الغضة مسافة الغموض بينه وبين الآخرين.
لم يكن اسمه عمرَ، ليقتله أبو لؤلؤة، وليس عمّاراً، لتقتله الفئة الباغية، كان عمرانَ، فهدموا فوق رأسه حلب كلها وتركوا له نوافذ الشوق مشرعة، تقطع وأصوات القذائف تقطع في ذاكرته شريط النسيان عمران اليوم خرج من معركة الأمل، وتفرغ لإحصاء الغارات الجوية التي تسقط من شريط الأخبار.
عمران الآن في منتصف الطريق، بين حلب البارحة وحلب اليوم، تركت أمه لعرّافة الليل فنجان قهوتها، وغادرت أحلامها. بعد أن أصبحت صورته مثار الإعجاب في مواقع التواصل الاجتماعي، وحصدت آلاف اللايكات، لايك لهذا الوطن الذي لم يعد يستحيي من الأطفال، لايك لهذه الحرب التي لم تعد تستحيي من الموت.
لايك لكل طفل سوريّ بلل الشوق قميصه فعاد مضرجاً بوردة حمراء. لايك لأطفال حلب الذين سقطت أحذيتهم وهم يركضون بسرعة الخوف. لايك لأولئك الذين خسروا حصتهم من الفرح، وعقدت المآسي أواصرها فوق رؤوسهم. لايك لمن سقطوا في إثم النسيان، وضاعوا في فرق التوقيت. لايك.
إبراهيم الزيدي – القدس العربي