حتى وقت غير بعيد كان كل محرر أخبار يعرف بأنه مع الحر والرطوبة في تموز ـ آب يأتي موسم الخيار: الاخبار الهامة تخرج في اجازة، والصحف تمتلىء بالقصص والحكايات التافهة. اما هذا الصيف فهو لا يزال في منتصفه، واذا بنا نرى بريطانيا تصوت للخروج من الاتحاد، اوروبا والولايات المتحدة تتعرضان لعمليات قاسية وتركيا تشهد محاولة انقلاب. وفي الايام الاخيرة، وبينما ننشغل نحن بشؤون على مستوى عالمي، مثل المستقبل السياسي «للظل»، فإن الحرب العالمية التي تجري بصمت منذ بضعة سنين ترتفع درجة.
فبعد أن هاجمت روسيا بفظاظة وعلانية قيادة الانتخابات لهيلاري كلينتون تعرضت لإحدى هجمات السايبر الاشد في تاريخها. فجهاز الاستخبارات الروسي الـ «اف.اس.بي»، خرج عن عادته واعترف بأن نحو 20 وكالة ومنظمة روسية تم اختراقها في هجمة متداخلة. كان واضحا بأن الروس يهمهم ان يظهروا بأنهم لا يكونون هم من يهاجم فقط بل هم ايضا ضحية للهجمات.
الـ «اف.اس.بي» سينشر اليوم (الجمعة) تفاصيل اضافية عن الهجوم الذي تعرضوا عليه، ولكن واضح منذ الان بأن روسيا واجهت في هذه الهجمة سلاحا سايبريا لم تلتق مثله من قبل. ومثل الوكلاء الغافين في عهد الحرب الباردة، الذين كانوا يرسلون إلى القوة العظمى الخصم وينتظرون لسنوات مكالمة هاتفية تفعلهم، يبدو أن هذه المرة ايضا فعل الأمريكيون أدوات غافية كانوا غرسوها قبل زمن طويل عميقا في الحواسيب الروسية.
يحتاج تطوير مثل هذه الادوات سنوات طويلة واخرى لاجل غرسها. وهذه يفترض بها ان تكون سلاح «يوم الدين» الذي لا يستخدم إلا بعد ان تكون استنفدت كل الوسائل الاخرى. فلماذا إذن اختار الرئيس براك اوباما أن يفعل ويحرق هذه الممتلكات الغاية في الأهمية الان بالذات؟ تعتقد وسائل الإعلام في الولايات المتحدة بأنه اضطر لأن يرد على ما بدا له كتدخل روسي فظ في حملة الانتخابات الأمريكية. واوباما اياه، الذي عرف دوما كيف يحتوي ويتجلد على كل هجوم تعرضت له بلاده، والذي سكت عندما هدد الرئيس الفرنسي بشدة غير مسبوقة المرشح دونالد ترامب، ظهر فجأة كإله ثأر. ولكن هل كان سيفعل ذات الادوات لو كان الروس اقتحموا مقر قيادة انتخابات ترامب؟
سيكون مشوقا أن نتبين ما الذي فكر به قادة الاستخبارات الأمريكية عندما طلب منهم ان يفعلوا ادوات «يوم الدين» التي طوروها على مدى السنين كي يساعدوا مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة. وهم يعرفون بأنهم سيستغرقهم سنوات لتطوير ادوات كهذه من جديد. وسأفاجأ إذا ما تبين بأنهم لم يصروا على تسجيل استيائهم في المحاضر.
الفهم السائد لدى معظم وسائل الإعلام الأمريكية هو ان الرئيس فلاديمير بوتين يريد أن ينتخب ترامب ولهذا فقد أمر بكشف الرسائل الالكترونية التي سرقت من مقر قيادة الحزب الديمقراطي. ولكن هذا تفسير ضحل يستخف بذكاء الرئيس الروسي. فهل حقيقة أن روسيا ردت في غضون يومين على دعوة ترامب كشف رسائل كلينتون يأتي حقا لمساعدته؟
محظور الخطـأ في فهم الثناء الذي يغدقه بوتين على المرشح ترامب. فمع أنه يرى فيه بالضبط ما هو عليه تماما: تبسيطي، ثنائي البعد، وليس بالضبط «السكين الاكثر حدة في الجارور»، كما يقول الأمريكيون؛ ولكن بوتين يفضل الف مرة كلينتون المتوقعة والمتصالحة، على ترامب الاستفزازي الذي يقول انه إذا كان لدى أمريكا سلاح نووي، فيجمل بها أن تستخدمه. فأعطوه اربع سنوات اخرى من الادارة الهزيلة في واشنطن، وهو سيستكمل السيطرة على اوكرانيا وسوريا ويتمكن من الانتقال إلى الاهداف التالية. ان العطف الذي يبديه بوتين تجاه ترامب يستهدف فقط تأمينه في حالة أن ينتخب ترامب فعلا.
الثورة المنهاجية
مشوق ان نجد أنه بين المقاطع التي اختارها الأمريكيون للهجوم في روسا كانت ايضا مواقع طاقة ترتبط بتركيا. وقد فعلوا هذا قبل لحظة من تحول بوتين واردوغان ليصبحا الصديقين الافضل. ففي الاسبوع القادم سيسافر اردوغان إلى موسكو. وفضلا عن اظهار الثقة المثيرة للانطباع لزعيم يتجرأ على ترك بلاده بعد اسبوعين من محاولة انقلاب، يتساءل العالم الغربي ما الذي سيضحي به اردوغان كي ينال صداقة الرئيس الروسي. فهل سيصدر تصريح يضع علامة استفهام استمرار التعاون التركي مع الغرب أم سيتنازل عن تطلعه لإسقاط بشار الاسد؟
لقد سبق لأردوغان ان بنى حجته للغيبة للابتعاد المحتمل عن الغرب: فممثلوه في كل العالم يكررون رواية الانقلاب الذي خطط له وادير من بنسلفإنيا. وادعاؤهم هو أن اجهزة الاستخبارات الأمريكية كانوا على علم بالخطوات التي قام بها الزعيم المنفي فتح الله غولن مع مؤيديه في تركيا، اختاروا تجاهلها. واكثر من هذا، فإن رجال أردوغان يدعون بأن محاولة الانقلاب في تركيا لم تستهدف تحقيق المزيد من الديمقراطية بل العكس، كان هدف المتآمرين اقرار جمهورية إسلامية على نمط غولن. وبكلمات اخرى، يدعون بأن تركيا نجت من انقلاب على نمط إيران.
الحقيقة هي أن الكثير من المتآمرين على اردوغان كانوا يعتبرون متماثلين مع غولن وخشوا من ان ينحوا من مناصبهم. ولا يزال من الصعب أن نتخيل الجيش التركي يقود انقلابا إسلاميا. في هذه الاثناء يقود اردوغان ثورته المنهاجية. فقد فهم بأنه اخطأ حين نشر الصور المهينة للضباط المعذبين واخطأ ايضا عندما أقام مقبرة منفصلة «للخونة». ولكن الكلمة الاخيرة في تركيا لم تقل بعد.
اذا اختار اردوغان سحب يده من سوريا مقابل الصداقة المتجددة مع الروس، فستسحب الارضية من تحت اقدام اتفاق المصالحة الذي وقع معنا. فاساس هذا الاتفاق كان الخوف المشترك بين تركيا واسرائيل من قيام دولة شيعية إيرانية في اجزاء هامة مما كان ذات مرة سوريا.
وقد احتدمت معضلته الاسبوع الماضي عندما اعلنت منظمة جبهة النصرة عن انقطاعها عن القاعدة وغيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام. واضح أن الخطوة تستهدف ابعاد رجال النصرة عن داعش واعفاءهم من الهجمات الأمريكية، ولكن توجد هنا خطوة هي أكثر من مجرد اعادة تصنيف.
لقد اصبحت فتح الشام القوة الاهم بين القوى المعارضة للاسد في سوريا. فهي تسيطر في شمال غرب الدولة، في منطقة الحدود مع لبنان وفي اجزاء من هضبة الجولان. زعيمها، ابو محمد الجولاني، يتطلع لأن يجعلها المنظمة الأم للمعارضة السورية، وأن تكون المنظمة النموذج لما يسميه السذج في الغرب «الإسلاميين المعتدلين». فببساطة، الفرق بينهم وبين داعش، برأيهم، هو أنهم لا يقطعون الرؤوس لغرض المتعة، بل فقط لسبب وجيه. ولكن في سنوات الجيرة التي راكمناها مع رجال النصرة في الجولان، تعلمنا ان هذه منظمة عقلانية. فهم لا ينتحرون، لا يعذبون السكان الذين يسكنون في مناطقهم (اذا كانوا سُنة بالطبع) ومستعدون للتعاون مع الجهات الغربية.
ان الارض الاقليمية التي كانت ذات مرة سوريا يمكن اليوم تقسيمها إلى أربعة محافل قوة مركزية: الاسد، داعش، الاكراد وفتح الشام. داعش سيهزم في نهاية المطاف ويطرد من سوريا. اسرائيل ملزمة بأن تتأكد إلا تنتهي هذه الخطوة باقامة دولة مرعية إيرانية في الجزء الغربي من سوريا على الحدود المشتركة معنا.
اذا تجاهلنا للحظة المأساة الانسانية الرهيبة التي تجري في سوريا، فإن المصلحة الاسرائيلية الباردة هي إلا تنتهي الحرب هناك قريبا. وفي هذه الاثناء خير تفعل اسرائيل في انها تواصل ابعاد يدها عن سوريا والا تتدخل في الحرب هناك، ولكن اللحظة التي سنضطر فيها إلى اختيار جهة ما آخذة في الاقتراب.
الون بن دافيد
معاريف 5/8/2016