“الاتحاد الاوروبي يقف متفرجا، فيما يموت المئات من المهاجرين قبالة شواطئه”، هل هذا الوصف الادق للكارثة التاريخية التي حدثت قرب جزيرة ايطالية في البحر المتوسط قبل يومين، ويخشى الآن أن يكون راح ضحيتها نحو تسعمائة وخمسين مهاجرا، وليس سبعمائة كما كان يعتقد؟ بعض الحقوقيين الاوروبيين سيرد ايجابا عن هذا السؤال، بل وسيؤكد ان اوروبا بما تملكه من امكانيات هائلة كانت تستطيع، ان ارادت، ان تنقذ اكثر من 28 مهاجرا نجوا من قارب الموت الذي غرق بعد انطلاقه من ليبيا قبل الوصول الى “الجنة الموعودة” على الجانب الآخر.
نعم لقد هرع وزراء الداخلية ورؤساء اجهزة الشرطة في 28 دولة اوروبية الى اجتماع “طارئ” في لوكسمبورغ، للبحث فيما يمكن اتخاذه من اجراءات لوقف مسلسل الهجرة الشرعية عبر المتوسط. واطلق رئيس الوزراء الايطالي ماتيو رينزي ومعه فيدريكا موغريني رئيس ادارة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي تصريحات قوية عنوانها “لم يعد هناك مبرر امام الاتحاد الاوروبي لعدم التحرك فورا لانهاء هذه المأساة”. لكن هل ستتمكن الحكومات من تبني تغييرات حقيقية في السياسة الاوروبية تجاه أزمة الهجرة غير الشرعية؟
للأسف فان اغلب التوقعات تشير الى اجابة سلبية.
والسبب وجود انقسام عميق داخل اوروبا تجاه اي مقترحات بـ “ارخاء الحبل” ولو قليلا في السياسة تجاه المهاجرين، على خلفية مخاوف من ان يصب ذلك في مصلحة الأحزاب اليمينية المعادية للمهاجرين.
انظروا ماذا حدث في فنلندا مؤخرا: حزب “الفنلنديين الحقيقيين” الذي غير اسمه الى “الحزب الشعبوي المعادي للمهاجرين” حصل على المركز الثاني في الانتخابات العامة، ومن المتوقع ان يشارك في تشكيل الحكومة. انها رسالة واضحة لن تهملها الحكومة البريطانية فيما تقف على ابواب انتخابات عامة. وهكذا فان آخر ما يمكن ان تفعله وزيرة الداخلية البريطانية تيريزا ماي الآن هو اتخاذ اي قرار يستفز الناخبين، ويدفعهم للتصويت لـ “حزب الاستقلال” المعادي للمهاجرين.
بل يذهب البعض الى ان المانيا بزعامة المستشارة انجيلا ميركل تعارض مجرد توسيع عمليات الاغاثة للمهاجرين عند غرق قوارب الموت التي تحملهم، اذ ان ذلك كما تزعم “سيشجع المهربين على ارسال المزيد من المهاجرين غير الشرعيين”(..). وكأن موت المئات في حوادث عديدة قلل من عزم المهربين او المهاجرين انفسهم.
وحسب احصائيات رسمية، فان حرس السواحل الايطالي تمكن من انقاذ اربعين الفا من المهاجرين العام الماضي، كما نجح نحو عشرين الفا منهم في الوصول الى اوروبا هذا العام، أما أعداد الغرقى فتجاوزت الالف منذ بداية العام الحالي فقط.
بكلمات اقل دبلوماسية، ان ارواح المهاجرين سواء كانوا بالمئات او الآلاف ليست أغلى من اصوات الناخبين بالنسبة للحكومات الاوروبية، التي لا تكف عن اعطاء جيرانها في الجنوب دروسا في حقوق الانسان. لكن السؤال يبقى مشروعا حول أسباب هذا التصاعد الملحوظ في مشاعر العداء الشعبي للمهاجرين في اوروبا، وهو ما يتوقع ان يظهر تباعا في الانتخابات العامة في اكثر من بلد، وان بقيت السياسات دون تغيير؟
اما الاجابة فيمكن العثور عليها بالقاء نظرة سريعة على ما يجري في الشرق الاوسط من اهوال، وجرائم ضد الانسانية، وكوارث انسانية، بما في ذلك صعود تنظيمات التطرف والارهاب، وانتشار المجازر ضد المدنيين على خلفيات سياسية او طائفية في بلاد لا تبعد كثيرا عن الشواطئ الاوروبية. الواقع أننا اصبحنا بلادا لا تكاد تصدر للعالم الا صور الدم والتطرف والتوحش والكراهية ، بعد ان تحولنا الى اكبر “حمام دم” في القرن الواحد والعشرين. وليس مستغربا، وبالتوازي مع التجاهل اللااخلاقي من الجانب الاوروبي لجذور المشكلة، ان تتسع موجات الهجرة غير الشرعية خلال المرحلة المقبلة، بعد ان اصبح احتمال الموت غرقا في الطريق الى اوروبا “الخيار الافضل” امام الملايين الذين اصبحت حياتهم ابشع كثيرا من الموت نفسه، حتى ان كثيرين يبيعون ما يملكونه او يقترضون لتوفير حفنة الدولارات المطلوبة ليتمكن من حجز مكان في أحد قوارب الموت.
وبغياب استراتيجية شاملة، تستند الى شجاعة وشفافية ومسؤولية وطنية وانسانية، وتتوازى فيها مسارات الأمن والسياسة و الاقتصاد والثقافة والتعليم، على اوروبا ان تستعد الى مواجهة هجرات، ومآس ايضا، غير مسبوقة في تاريخ البشرية.