السؤال، هو كم يبقى من ثورتنا الفلسطينية، عندما يحاصر الآلاف من الفلسطينيين، أو يهجرون، أو يموتون جوعاً، في مفارقة تاريخية لم تشهد لها الحروب مثيلا، وعندما يكون كل ذلك تحت شعار حماية الفلسطينيين والمقاومة ضد الاحتلال وغيره، في نتائج رقمية بسيطة، تكشف هول المصاب، فالفلسطينيون تم طردهم قسراً من مخيمات، سبينة، والحسينية، ويمنعون حتى اللحظة من العودة اليها، وتعدادهم في هذين المخيمين أكثر من خمسين ألفا، ينام كثير ممن تبقى منهم على أرصفة الطرق في ضواحي دمشق، يتسولون ويأكلون التراب من شدة العوز. يضاف إليهم سكان مخيم خان الشيح، الذين اتفقوا مع المعارضة على أن لا يدخلوا حدود المخيم، وبالفعل، هو المخيم الخالي من المعارضة، لكنه والمحاصر أيضا، الذي بقي فيه أقل من عشرين بالمئة من سكانه، لا يستطيعون الخروج بسبب وابل الرصاص الذي سينهمر عليهم.
في مكان آخر هناك مخيم درعا، الذي تحول إلى رماد، ومخيم حندرات الذي لم يبق منه شيء، وصولا إلى تجمع الفلسطينيين في دوما والقابون والمزيريب، وهذه كلها مسحت عن الوجود، إما بالبراميل أو بالسيارات المفخخة، وصولا إلى مخيم اليرموك، الذي نسفت المليشيا التي تحاصره الربع الأول من المخيم، وسوته بالتراب، خوفا من أن تقوم العصابات الإرهابية المدعومة من إسرائيل باقتحام دمشق منه.
أما قصة الجوع، فهي قصة فريدة من نوعها، فبحسب النظام السوري فإن العصابات المسلحة تمنع الأهالي من الخروج لاستلام الحصص الغذائية، وهكذا تمضي عدة أشهر من الجوع، ثم هذه العصابات تسمح للأهالي بالخروج لاستلام الحصص الغذائية. أما الأهالي فهم يصلون إلى مدخل المخيم لكنهم ممنوعون من الخروج إلا بموافقة خاصة تكلف الشخص الواحد مبلغا فلكيا، ولهذا السبب عليه أن يبقى محاصرا تختطفه العصابات المسلحة التي في المخيم. أما رواية منظمة التحرير المشغولة بالفعل بالملف السوري من المفاوضات والتسويات، بين المعارضة والسلطة ودخولها كوسيط في ملفات عديدة، فقد انتدبت، والحمد لله، أحمد المجدلاني للحضور ضمن وفود عديدة لزيارة دمشق، وقد التقيته والتقيت كل الوفود السابقة، حتى حين مغادرتي دمشق، وكنت مسرورا أنني تعرفت على احمد المجدلاني وزير السلطة، وزاد سروري أنه من أهالي مخيم اليرموك، ثم اكتشفت انه جاء كوزير وطرح حل أزمته الشخصية، فالوزير احمد هو فلسطيني سوري مطلوب للخدمة الإلزامية وتلزمه تسوية خاصة ودفع غرامة مالية مقابل السماح له باسترداد حقوقه المدنية في سوريا، وهكذا كان حصار مخيم اليرموك فرصة لاسترداد السيد المجدلاني حقوقه المدنية، ووقف ملاحقته من قبل الأمن العسكري باعتباره فارا من الخدمة.
وسط أزمة مخيم اليرموك أيضا نجح وفد السلطة ذاته باسترداد بعض المكاتب، من بينها مقر السفارة الجديد في حي الطلياني، وبذلك حافظت منظمة التحرير على مكاتب لها صبغة تاريخية، خصوصا بعد بيع فتح الانتفاضة لعدد من المكاتب ذات الصبغة التاريخية وتحويل أموالها للقضايا الخاصة، ولكن المهم، أنه بالفعل نجح الوفد في الحفاظ على الوجود التاريخي للمكاتب الفلسطينية، واستردادها، وفشل في استرداد مخيم اليرموك بسبب إصرار العصابات المسلحة على اختطافه، كما نجح الوفد بالفعل في الحصول على براءة ذمة للوزير المجدلاني، ابن مخيم اليرموك او ابن فلسطينيي سوريا، ولكنه فشل في معرفة مصير قرابة عدة آلاف من فلسطيني سوريا، هم في عداد المفقودين، ولا يعلم عنهم أحد شيئا.
في الجهة المقابلة، هناك من تسمي نفسها معارضة سورية، بعضهم اجتاح ونهب وقتل وفعل كل المحرمات، لأن الفلسطينيين عملاء للنظام، باعتبار أن المخيم المدني المسالم كان يجب أن يحمل السلاح حتى يحل مشكلة المعارضة مع النظام، وهكذا ظهرت كتائب عجيبة الصبغة، تعلن انشقاقها في اليوم الأول، وتقتل الفلسطينيين داخل المخيم لأنهم خونة وعملاء، ثم تعلن انشقاقها عن المعارضة وتقف على مدخل مخيم اليرموك لتبدأ بحصار وقتل الفلسطينيين لأنهم يحمون العصابات المسلحة في المخيم.
والله بالفعل هذا الامر المحير، فما الذي يحدث؟ أظن ان معجزة التفسير لا تحتاج إلى منجمين، ولا كتب تفسير الاحلام وسواهما، هي قصة بسيطة غير معقدة، وهو ان ملف المخيم هو ضمن حدود لعبة الامن والمخابرات العربية والدولية، ولا يبدأ بمدخل مخيم اليرموك، حيث يتلوى طلال ناجي من الألم وهو يحاول اقناع مسؤول فرع فلسطين بوصول المساعدات للمخيم، غير ان مسؤول الفرع يحيل هذا المسؤول الفلسطيني الى مساعد في المخابرات، الذي يخبره أن لا يلح عليه بالطلب، وهكذا يكون المسؤول الموالي تحت رحمة كاتم الصوت، يسكت أو يموت. في مخيم اليرموك أيضا هناك هيئة شرعية في بلدة – يلدا- المجاورة، وهناك معارضة مؤمنة مسلمة تهتم بالإسلام جيدا، وهذه المعارضة تصدر فتواها بحرمة إمداد الفلسطينيين بالغذاء خشية نقض العهد المبرم مع الدولة.
على مقربة من مدخل مخيم اليرموك ايضا تحتفل الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية- وليس السفارة- بمناسبة اطلاق الثورة الفلسطينية، وليس هناك افضل من قالب “الجاتوه” أن يكون على شكل علم فلسطين، حيث يتم قطعه بالسيف، في إشارة الى تقطيع فلسطين وتحويلها الى طعام للمتعة، لقد كان الامر متاحا، فالسيد انور عبد الهادي السفير في الدائرة السياسية، الذي يقدمه الاعلام الرسمي على انه سفير فلسطين، وهي مفارقة، لأول مرة هناك سفيران من بلد واحد في دولة واحدة، ولكل منهما مهامه الخاصة، ويمكن للسيد انور عبد الهادي ان يكون في مطار موسكو لاستقبال وفد المعارضة السورية القادم للمفاوضات، ويمكن له ان يكون بدمشق ايضا لمتابعة ملف الفلسطينيين، ويمكن له ان يقرر مصير مخيمات سبينة والحسينية واليرموك، وان يجتمع مع شخصيات متعددة بعضها دولي، مطلع عام 2014 لتحديد مستقبل من تبقى من فلسطينيي سوريا، بأن يتم تجميعهم جنوب دمشق الى الشرق من منطقة الكسوة، ويتم الاتفاق ايضا على بناء بيوت جاهزة لهم على شاكلة مخيم نهر البارد، ويمكن للسلطة أن تنكر كل هذا، ولكن اسألوا انور عبد الهادي، هل اتصل بي عبر وسيط في العام الماضي لدعم الفكرة؟
أما غزة المجاهدة، فهي مشغولة بترتيب العلاقة مع إيران، لأجل استمرار الدعم العسكري والمادي للمقاومة هناك، ولم تسمع قيادات غزة، عن الموت جوعا، خصوصا اخونا المجاهد ابو العبد هنية، الذي يأكل امام الكاميرا شوربة العدس والخبز تعبيرا عن تواضعه وهذا صحيح معهود فيه، ولكن هل يعلم ان الخبز فقط، هذا الخبز هو حلم اطفال مخيم اليرموك.
دعوني اختم بالقول، انا لم أعد قادرا على فهم لعبة ملف فلسطينيي سوريا، بين النظام والمعارضة والأطراف المحلية والدولية. لك الله وحدك يا مخيم اليرموك، لك الله وحدك، انت لن تنجح بالبقاء وسط هذه الاطراف كلها، وعلى الناس ان يفكروا بالرحيل، وبالرحيل فقط.
أيمن خالد – القدس العربي