كثيرا ما وصفت اوضاع الشرق الاوسط وتحالفات دولها بانها كـ «الرمال المتحركة» التي تتميز بها صحراء الجزيرة العربية. وبرغم ما يبدو من جمود يهيمن على الساحة السياسية في البلدان العربية منذ الانقلاب الشامل على الربيع العربي، والسعي لمنع تكرره بكافة الوسائل والسياسات، إلا ان تغيرات غير قليلة تتحرك مفاعيلها في العلن احيانا وسرا في اغلب الاوقات، تشير إلى بداية نهاية حالة الصمت والجمود في المنطقة، بل يرى البعض ان عاصفة كبرى ستعقب الهدوء المهيمن على الوضع. ما اسباب ذلك؟ والى اين ستسير الامور؟ ومن هم اللاعبون الاساسيون في المرحلة المقبلة؟
هذه تساؤلات يمكن استشراف بعضها باعادة فتح ملف الثورات والاساليب التي استخدمت للقضاء عليها، وكذلك الالتفات للقضايا الجوهرية في المنطقة وموقف الغرب منها او دوره في بعضها. القليل من أساليب التصدي للثورات يمكن اعتباره مؤسسا على قراءة واعية لاسباب الغضب الشعبي الذي عم العالم العربي، والكثير منها انما يساهم في تكثيف الغليان ويضيف اسبابا جديدة لعوامل التوتر واسبابه. والواضح ان العقل والحكمة والمنطق غابت جميعا عن مفكري «قوى الثورة المضادة» وسياسييها ومنظريها عندما اجمعوا امرهم على ضربها، فاستخدمت اساليب وسياسات تراكم اسباب السخط الشعبي ولا تقضي عليها. فالتطرف والإرهاب والطائفية استخدمت كثيرا لاشغال الشعوب العربية بصراعات داخلية مختلقة، بينما تم التغاضي عن الاحتلال والاستبداد والديكتاتورية والظلم الاقتصادي وغياب حكم القانون وعدم التوزيع العادل للثروة. فلو ان مناهضي المشروع التغييري استوعبوا مطالب الشعوب وعملوا لتحقيق بعضها، فلربما تم اضعاف الرغبة في التغيير الشامل او تأجيلها فترة اطول. وهذا يتضح من الخطوات المتواضعة القليلة التي اتبعت في بداية الثورات والتي ساهمت في تخفيف حدة الغليان. ففي تونس أزيح زين العابدين بن علي عن السلطة، وتكرر ذلك في مصر مع حسني مبارك. وكلتا الخطوتين ساهمتا في تخفيف الغليان الشعبي واضعاف وهج الثورتين برغم حصر التغيير برأسي النظامين مع بقاء نظاميهما. ومنذ ذلك الوقت لم تعمل قوى الثورة المضادة على تحسين الاوضاع او التصدي للقضايا التي دفعت الجماهير للثورة على واقعها والسعي لتغييره.
وبرغم ما يوجه من سهام لما يسمى «نظرية المؤامرة» فان للغرب دورا مباشرا في التأثير على المسارات السياسية في المنطقة، وهو دور ليس ايجابيا في اغلبه. فبعد خمسة اعوام على الربيع العربي ما يزال ذلك الدور متواصلا بدون تغيير او تطوير. ولعل ذلك من الاسباب التي ستساهم في اضعاف ذلك الدور، وقد تكون السياسات التركية الاخيرة من مصاديق ذلك. فالأجندة الغربية في الشرق الاوسط لم تتغير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، متمثلة في عناوين عديدة: الاول: الدعم المطلق وغير المحدود لـ «اسرائيل» برغم ما يشوب ذلك الدعم من فتور نسبي ومؤقت احيانا. الثاني: الاستمرار في الهيمنة على خيرات المنطقة خصوصا النفط والتحكم في كمية الانتاج والسعر. الثالث: ابقاء المنطقة متخلفة سياسيا بدعم الاستبداد والتصدي لمحاولات تحديث الانظمة السياسية، الرابع: السعي المتواصل لتفتيت المنطقة ومنع توحد دولها وانظمة الحكم فيها، باثارة النعرات العرقية والدينية والمذهبية. الخامس: التصدي للانظمة التي لا تنسجم مع اجندات الغرب بكافة الاشكال، وآخرها دعم المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وقبلها التصدي لإيران بعد سقوط نظام الشاه، ثم اسقاط نظام صدام حسين. هذه الاجندة لم تتغير على مدى السبعين عاما الماضية، وان طرأ عليها بعض التعديلات التي تفرضها التطورات. كما لا يوجد خلاف جوهري بين ضفتي الاطلسي بشأنها. فالكلام عن ترويج الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وتجريم الاحتلال، كل ذلك لا ينطبق على المنطقة العربية، ولكن قد تستغل بعض هذه العناوين للتدخل والضغط عندما تظهر لدى حاكم او دولة نزعة لاستقلال القرار او التحالف مع اطراف لا يرغب الغربيون فيها.
من هناك يبدو الموقف التركي الحالي مثيرا لاستغراب الكثيرين، ومصدر قلق كبير للحلفاء الغربيين الذين اعتقدوا ان بامكانهم بسط النفوذ والهيمنة على تركيا وبقية الدول الإسلامية الكبرى. وما تزال لديهم اساليب للضغط، واخطرها التهديد بالتقسيم على اسس عرقية او دينية او مذهبية.
وتركيا، كما هي إيران وباكستان ومصر، استطاعت منع تفاقم النزعات الانفصالية لدى مكوناتها العرقية او الدينية. وسواء كانت انظمة الحكم فيها ملكية او جمهورية، فان العنصر المشترك يتمثل باصرارها على منع التقسيم الداخلي والسعي المتواصل لمنع اثارة نزعات الانفصال. ولكن فساد الحكم المركزي او ضعفه ساهم احيانا في التقسيم، خصوصا مع وجود التحريض والتخطيط الخارجيين، كما حدث في السودان. ولا تبدو مصر او ليبيا او الجزائر او سوريا او تركيا او العراق او إيران او باكستان، محصنة تماما ضد محاولات التقسيم والتفتيت. والحكم المركزي القوي وحده لا يكفي لمنع ذلك، بل الحكم العادل الذي يعطي للأطراف دورا في الحكم والادارة، ويؤسس كيانه السياسي على اسس المواطنة المتساوية واحترام التعددية واقامة حكم القانون. الغربيون لم يهتموا يوما بتطوير المواطن العربي او المسلم، ومنحه حقوقه الطبيعية المشروعة، بل استخدموا حالة التخلف لتضخيم المشاكل وافتعال الازمات. وتظاهرت الدول الغربية بالتدخل المباشر احيانا بدعوى التصدي للانظمة الاستبدادية كما حدث في العراق، ولكنهم غرسوا بذور الخلاف والاختلاف والضعف والفساد لمنع قيام بديل سياسي قوي يستطيع الحفاظ على السيادة الوطنية وحماية البلاد. ولم يتردد هؤلاء في استهداف بلدان العرب بوسائل التفتيت والتمزيق خصوصا اثارة الحساسيات العرقية (في تركيا والعراق وإيران والجزائر) او الدينية (كما في مصر) او المذهبية (في العراق والبحرين).
والملاحظ ان التدخل الغربي لم يؤد لاستقرار اي من البلدان، ابتداء بالعراق او سوريا او ليبيا. ولذلك فبقاء بلد كبير مثل تركيا مستقرا وآمنا مع احتفاظه بامتداداته الدينية والثقافية والسياسية مع العالم العربي، اصبح مصدر قلق كبير لهم، فلم يترددوا في دعم الانقلاب الفاشل بهدف توسيع دائرة التوتر في منطقة لم تعرف الاستقرار منذ عقود.
الغرب سيدفع ثمن تلك السياسات غير المبدئية سياسيا وامنيا. فغياب الجدية في التصدي لظاهرة الإرهاب ادى لاستهداف الغرب بشكل مباشر. فمشروع «الحرب على الإرهاب» لم يهدف للقضاء عليه بل ابعاده عن العالم الغربي وحصره بالمنطقة العربية كالعراق وسوريا وليبيا. فماذا كانت النتيجة؟ انتشر الإرهاب وتجاوز ما كان عليه قبل 15 عاما عندما اعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش حربه على الإرهاب. وشعر الغربيون بالاطمئنان حين انتقلت الظاهرة إلى العراق وسوريا وليبيا، واعتقدوا انهم بمنأى عنها. كما لم يتخذوا اي موقف لوقف الحرب في اليمن، وسكتوا على الاجتياح السعودي للبحرين. وفماذا كانت النتيجة؟ ان تنظيم القاعدة توسع في الجزيرة العربية، وبدأ تنظيم داعش يخترق الحدود الجغرافية العربية ليستهدف بروكسيل وباريس، ثم لندن وواشنطن. ومع استمرار لهب الحرب في اليمن، اعلن تنظيم القاعدة، هذه المرة على لسان حمزة نجل الزعيم السابق للتنظيم، اسامة بن لادن، الاسبوع الماضي انه سيوسع دائرة استهدافه ليشمل، بالاضافة للغرب، دولا اقليمية كالمملة العربية السعودية. ومن المؤكد ان هذا تطور خطير يتجاوز ما كان الغربيون يخططون له او يأملون حدوثه. البعد الروسي في التوازن السياسي الجديد في الشرق الاوسط اصبح مصدر قلق حقيقي سواء للغربيين بزعامة أمريكا وبريطانيا ام للحكومات الاقليمية خصوصا العربية منها. فهو يمثل اختراقا للمعادلة التي كان البعض يحركها ليبقى الصراع ضمن الاطر المذهبية، وليمثل اعادة التوجه السياسي لتركيا العثمانية لتتحالف مع روسيا وإيران بشكل وثيق، وتتهم حكومات الغرب بالتواطؤ في المخطط الانقلابي. روسيا هي المستفيد الاكبر من التراجع السياسي الغربي الناجم عن السياسات الانتهازية التي مارسها منذ عقود. فحين تنطلق الطائرات العسكرية مثل سوخوي 34 من قاعدة همدان الإيرانية، فان ذلك تطور سلبي على الصعيد الاستراتيجي، بالنسبة للغرب. وحين تفكر موسكو في استخدام قاعدة «انجيليك» التركية لاستخدامها كمنطلق لقصف مواقع داعش في سوريا، فان ذلك يكشف عمق التغلغل الروسي في مناطق النفوذ الأمريكية. فقاعدة انجيليك التركية التي تم بناؤها في 1954 وتحتفظ أمريكا فيها بستة رؤوس نووية، تمثل القاعدة المتقدمة للولايات المتحدة في الشرق الاوسط، ومن اكبر قواعدها في المنطقة. وبالتالي فان طمع روسيا في استخدامها يعكس تراجع الحظوظ الغربية في الشرق الاوسط بسبب السياسات الانتهازية والمواقف المبدئية ازاء قضاياه.